منتديات مصرية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اذهب الى الأسفل
admin
admin
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 13582
التقييم : 2521
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العمر : 57
غزوة بدر 3913
http://masrya.ahlamontada.org

غزوة بدر Empty غزوة بدر

السبت 27 نوفمبر 2010, 3:52 pm
د. راغب السرجاني

في ميدان المعركة
إنها ساعة الصفر، الجيشان أمام بعضهما.


قام رجل من المشركين اسمه الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وأقسم أن يشرب من حوض المسلمين أو ليموتَنَّ دونه.


انظر كيف يمكن أن يكون حجم الضلال، كفاح وتضحية واستعداد للموت من أجل قضية فاسدة {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر: 8].


وقام الرجل ليبرَّ بقسمه، لكن قابله الأسد حمزة بن عبد المطلب وضربه ضربة قطعت ساقه، ومع ذلك -سبحان الله- فقد كان الرجل مصرًّا على الوفاء بقسمه، وزحف على الأرض ليصل إلى ماء بدر، لكن حمزة أدركه وقتله قبل أن يصل إلى مراده.


كانت هذه نقطة مهمة جدًّا لصالح المسلمين، وليس المهم مَن هذا الشخص الذي قتل، ولكن المهم أن هذا حدث في أول دقيقة من المعركة، فكان هذا توفيقًا كبيرًا من رب العالمين، رفع معنويات المسلمين، وأحبط معنويات الكافرين.


المبارزة قبل المعركة
تحرك الغيظ في قلوب زعماء الكفر.


فنهض ثلاثة من الزعماء بأنفسهم يطلبون المبارزة مع ثلاثة من المسلمين، وكانت هذه عادة في الحروب القديمة، أن يتبارز أفراد قلائل كنوع من الاستعراض، ثم يبدأ الهجوم العام الشامل بعد ذلك.


من الذي قام من الكفار؟ أمر عجيب.


لقد قام ثلاثة من عائلة واحدة!


قام عتبة بن ربيعة القائد القرشي الكبير، وقام أخوه شيبة بن ربيعة القائد القرشي الكبير أيضًا، وقام ابن أخيه الوليد بن عتبة أحد فرسان قريش المشهورين.


هذه مجموعة من أفضل فرسان مكة.


لكن العجيب الذي يلفت النظر هو قيام عتبة بن ربيعة.


عتبة بن ربيعة كان من الحكماء المعدودين في قريش، وكان من أصحاب الرأي السديد في أمور كثيرة، وكان يدعو قريشًا أن تخلي بين رسول اللهوبين العرب، ولا يقاتلوه، وكان يقول إن هذا الرجل ليس بشاعر ولا كاهن ولا ساحر ولا بكاذب، وكان يرفض فكرة القتال في بدر بعد إفلات القافلة، وكان إلى آخر لحظة يجادل المشركين في قضية القتال، لدرجة أن الرسولنظر إليه من بعيد قبل بدء المعركة، وكان عتبة يركب جملاً أحمر، فقاللأصحابه: "إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا"[1].


لكن القوم لم يطيعوه، وأصرُّوا على القتال.


وللأسف الشديد! دخل عتبة معهم المعركة ولم يرجع كالأخنس بن شريق. وللعجب الشديد، خرج في أول من خرج للمبارزة والقتال.


لقد كان عتبة بن ربيعة مصابًا بمرض الإمَّعِيَّة.


حكيم في الرأي، ولكن يسير مع الناس، إذا أحسنوا أحسن، وإذا أساءوا أساء، ضعيف الشخصية، مهزوز، متردد.


وهذا الذي أَرْداه فأصبح من الخاسرين. وهذا النموذج نراه كثيرًا: أشخاص ذوو رأي سديد، تُعقد عليهم الآمال في تغيير مَن حولهم، ولكنهم يخيبون تلك الآمال، ويسيرون مع التيار؛ فيهلكون.


خرج الفرسان الثلاثة يطلبون القتال، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار.


لكن الفرسان المشركين قالوا: لا حاجة لنا بكم، إنما نريد أبناء عمِّنا.


نريد قتالاً قرشيًّا قرشيًّا.


فقال رسول الله:


قم يا عبيدة بن الحارث (عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه).


قم يا حمزة (عمه).


قم يا علي بن أبي طالب (ابن عمه).


وانتبهوا لهذا الاختيار، كلهم من الأقربين، مع أن القتال خطير، لكن القائد وعائلته يعيشون حياة الناس تمامًا، ويتعرضون لكل مشاكل الأمة، وفي أوائل المضحين والمجاهدين.


وبدأت المبارزة!


يوجد اختلاف في الروايات حول مَن بارز مَن؟ لكن رواية أحمد وأبي داود تقول: إن علي بن أبي طالب بارز شيبة، وإن حمزة بارز عتبة، وإن عبيدة بن الحارث بارز الوليد بن عتبة[2].


والتقت السيوف، واحتدم الصراع، وارتفعت الآهات، ثم بدأت الدماء تسيل بل تتساقط الأشلاء.


دقائق معدودة وانتهت الجولة الأولى من الصراع، ومرة ثانية لصالح المسلمين.


الله أكبر، ولله الحمد!


علي بن أبي طالب قتل شيبة.


وحمزة بن عبد المطلب قتل عتبة، لم تنفع عتبةَ حكمتُه.


وأصيب عبيدة والوليد بإصابات بالغة، فانطلق عليٌّ وحمزة على الوليد بن عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين.


في أول وقود للمعركة أربعة قتلى للمشركين.


واشتعلت أرض بدر بالقتال.


هجوم شامل كاسح في كل المواقع.


صيحات المسلمين ترتفع بشعارهم في ذلك اليوم: أَحَدٌ أَحَد.


صليل السيوف في كل مكان، والغبار غطَّى كل شيء.


الصدام المروع الذي يحدث للمرة الأولى بين المسلمين والكافرين.


التربية بالجنة
ومع كل الحماسة التي كان المسلمون فيها إلا أنهم ما زالوا في حاجة للتشجيع والتحفيز أكثر وأكثر؛ لأن الموقف صعب، بل غاية في الصعوبة، هنا يأتي دور التحفيز بشيء، ليس هناك مؤمن واعٍ فاهم يكسل أو يتعب عندما يسمعه.


جاء وقت التذكير بالجنة.


رفع رسول اللهصوته ليُسمِع الجميع: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ، فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إَلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"[3].


الكلام عجيب، هذا الكلام لا يمكن أن يفهمه علماني، ولا يمكن أن يفهمه كافر أو فاسق.


الكلام عجيب؛ لأن الرسوللم يحفز الناس على الدفاع عن حياتهم، بل حفزهم على فَقْد حياتهم.


يا الله! انتبه لهذا القول: "لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا".


من كان يعيش لدنيا، وقُتِل فَقَدَ كل شيء.


لكن من كان فاهمًا لمعنى الجنة سيكون للقتل عنده معنى آخر، ولكن الجنة ليست على الأرض.


الجنة تأتي بعد الموت، يعني الموت هو الحاجز الوحيد بين الشهيد الذي يقتل في أرض القتال، وبين الجنة.


الموت هو الحاجز الوحيد لو عبرناه دخلنا الجنة.


الشهيد يدخل الجنة بغير حساب.


فلو جاء الموت صِرْنا من أهل الجنة. إذن يا ليت الموت يأتي.


سبحان الله!


الموت المكروه عند عامَّة البشر، يصبح أمنية بل أسمى الأماني لمن فَقِه حقيقة الجنة.


- "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ". رواه البخاري عن أبي هريرة.


- وروى البخاري ومسلم عن أنس t قال: قال رسول الله: "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدِّهِ (سوطه) فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا (ما بين السماء والأرض أو ما بين المشرق والمغرب)، وَلَنَصِيفُهَا (خمارها) عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".


لا يمكن للإنسان أن يكون عنده يقين في هذا الكلام؛ ثم لا يشتاق إليه.


لذلك فالجيش المنصور جيش يحب الموت فعلاً.


كلمة خالد بن الوليد المشهورة التي ذكَّرناكم بها قبل ذلك: "جئتكم برجال يحبون الموت، كما تحبون أنتم الحياة".


وعندما تكلم الرسول عن الأمة المهزومة ذكر من صفاتها الوَهْن.


فسُئل: وما الوهن؟


فقال: "حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموت"[4].


فلو وُجِد هذا في نفوس الأمة هُزِمَت، ولو أحبت الأمة الموت وُهِبَت النصر، ووهبت الجنة.


إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الراحل كان يقول تعليقًا على اتهام اليهود له بعدم القدرة على السيطرة على حماس والجهاد؛ قال: أتحدى أيَّ جهاز مخابرات في العالم يقاوم أُناسًا يريدون أن يموتوا.


كلام في منتهى الدقة.


حقًّا من المستحيل أن تقاتل إنسانًا يريد أن يموت.


بم ستخيفه؟ هل ستقول له: سأقتلك؟


هذا هو ما يريده. بل هو خائف ألا يموت.


هل منا من يريد أن يموت؟!


يتمنى الموت؟!


يبحث عن الموت؟!


هل منا أحد جاهز للموت؟!


كتب وصيته؟!


يفكر في يوم يموت فيه في سبيل الله؟!


لو أنك لا تتمناها ولا تبحث عنها، فأنت لا تعرف الجنة.


هذا الكلام ليس كئيبًا، ولا حزينًا.


الكئيب فعلاً أن تقف يوم القيامة تنتظر الحساب يومًا واثنين، وسنة واثنتين، وأنت ترى الشهداء حولك يُسرِعون إلى الجنة من غير حساب.


ولا تقل: أين الجهاد؟ وأين القتال؟


المسألة مسألة صدق، ومسألة نيَّة.


تريد أم لا تريد؟


لو أردت ستنال الأجر، وتدخل الجنة وإن متَّ على فراشك.


"مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"[5].


ولو لم تُرِدْ فلن تنال أجر الشهادة، حتى لو فُتِحَ لك ألف باب للجهاد.


المسألة إنما هي صدق النية مع الله تعالى.


من مواقف الصحابة في بدر
موقف عمير بن الحمام في بدر
انظروا، ماذا فعلت الجنة في الصحابة في بدر.


عمير بن الحمام t يقف بجانب الرسول، والرسوليقول: "قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَواتُ وَالأَرْضُ".


كم مرة سمعنا هذه الكلمات؟


كثيرًا.


كم مرة عملنا لها؟


قليلاً.


عمير بن الحمام سمع هذه الكلمة، فقال متعجبًا: عرضها السموات والأرض!!


الإنسان منا يكافح سنين طوالاً لكي يصبح عنده شقة، أو سيارة، أو بعض الأموال، أو بعض السلطات.


كل هذا لا يمثل واحدًا على مليون مليون من الأرض.


فكيف بالجنة التي عرضها السموات والأرض؟! ما شكلها؟!


عمير يتعجب: عرضها السموات والأرض!


قال: "نَعَمْ".


سبحان الله! هكذا في منتهى الإيجاز.


لا شرح ولا تفصيل.


وعمير بن الحمام t يتلقى بمنتهى اليقين، لا جدال، لا محاورة.


قال عمير: بَخٍ بَخٍ (كلمة للتعجب).


قال له: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟"


ممَّ تتعجب؟ أتشك في هذا الكلام؟


أسرع عمير يقول: لا والله يا رسول الله، ما قلتها إلا رجاء أن أكون من أهلها.


قال: "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا".


يا الله!


عمير يعلم أنه من أهل الجنة، وهو ما زال يمشي على الأرض، أرض بدر.


بينه وبين الجنة فقط أن يموت.


لم يعُدْ قادرًا أن يعيش لحظة واحدة على الأرض.


كان يمسك بيديه بعض تمرات يتقوَّى بها على القتال.


وبعدها فكَّر.


أيُّ تمرٍ هذا الذي أريد أن آكله؟!


أين ثمار الجنة، وطيور الجنة، وشراب الجنة، وحوض الرسولفي الجنة؟


فألقى بالتمرات على الأرض، وقال كلمة عجيبة؛ قال:" لئن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة"[6].


أَكْلُ التمرات حياة طويلة!!


هل سأنتظر ثلاث أو أربع دقائق آكل فيها التمر؟ هذا كثير.


ألقى بنفسه وسط الجموع الكافرة.


استشهد، دخل الجنة، هو -يقينًا- في الجنة.


أليس هذا كلام الرسول"لاَ يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ؛ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"؟!


ثم إنه قالها تصريحًا لعمير بن الحمام، قال: "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا".


أهل الدنيا، طلاب الدنيا يظنون أن عميرًا خسر، مات في عزِّ شبابه كما يقولون، لم يستمتع بحياته، لكن المقاييس الصحيحة ليست هكذا.


روى الترمذي -وقال: حسن صحيح- عن كعب بن مالك t قال: قال رسول الله:


"إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَعْلَقُ[7] مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ"[8].


موقف عمير بن أبي وقاص
- عمير بن أبي وقاص شاب لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، في تعريف منظمة الصحة العالمية طفل (الأطفال في تعريفهم أقل من 18 سنة).


وفي تعريف القيم والأخلاق والمبادئ والعقائد من سادة الرجال.


تقدم وهو في هذه السن الصغيرة؛ ليجاهد مع المجاهدين في بدر، لكنه كان خائفًا.


من أيِّ شيء كان خائفًا؟ هل يخاف أن يموت؟ لا، بل يخاف ألا يموت.


يخاف أن يرده الرسول؛ لأنه ما زال صغيرًا.


أخذ يتوارى بين القوم حتى لا يراه الرسولفيرده.


رآه أخوه المجاهد العظيم سعد بن أبي وقاص t.


فقال له: ما يحملك على هذا؟


قال: أخاف أن يراني رسول اللهفيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج؛ لعل الله أن يرزقني الشهادة.


رآه الرسول، فأشفق عليه من القتال، وردَّه.


بكى عمير t؛ فستضيع عليه فرصة الموت في سبيل الله.


ولكن رقَّ له رسول الله، وسمح له بالجهاد[9].


جاهد، اشتاق بصدق للشهادة، استشهد، دخل الجنة.


فَهِم عمير بن أبي وقاصt وهو لم يُكَلَّفْ إلا منذ سنتين أو ثلاث، وهو لم يبلغ السادسة عشرة من عمره، ما يعجز عن فهمه أشياخ وحكماء وعباقرة.


الجنة!


منهج تربوي إصلاحي واقعي، لا يرقى إليه أيّ منهج من مناهج الدنيا.


موقف عوف بن الحارث
- عوف بن الحارث t سأل رسول الله: يا رسول الله، ما يُضحك الرب من عبده؟ قال: "غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا"[10].


هنا ألقى عوف درعه وقاتل حاسرًا.


هذا الفعل يلقي الرعب في قلوب العدو؛ لأنه يعبر عن إنسان لا يهاب الموت بل يطلبه.


قاتل عوف وقاتل وقاتل، حتى قُتِل، اُسْتُشهد، دخل الجنة.


موضوع الجنة لم يغب أبدًا عن أذهان الصحابة y؛ لذلك انتصروا.


من قبل أن يأتي الجيش بدرًا وهو يبحث عن الجنة.


وفي أرض بدر يبحث عن الجنة.


وبعد بدر يسأل عن الجنة.


موقف سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة
- قبل الخروج إلى بدر سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة.


الاثنان يريدان أن يخرجا للجهاد في بدر، لكن عندهما بنات كثيرات، ولا بد أن يخرج أحدهما، بينما يبقى الآخر ليرعى البنات.


الاثنان يريدان أن يخرجا، الاثنان طالبان للجنة بصدق، لم يرضَ أحدهما بالتنازل، فقررا إجراء قرعة، فخرج سهم الابن سعد بن خيثمة، تحسَّر أبوه، تحسر حسرة حقيقية، فقال لابنه برجاء: يا بُنيَّ، آثرني اليوم. دعني أخرج، فَضّلني على نفسك، أنا أبوك؛ لكن سعدًا t ردَّ بجواب يفسر قصة الجيش المنصور، قال في أدب: يا أبتِ، لو كان غير الجنة فعلت[11].


أيُّ شيء في الدنيا يمكن أن أتنازل عنه لك، إلا الجنة.


وإلا فلماذا أحيا أنا في هذه الدنيا، لو لم يكن للحصول على الجنة؟


لا يمكن أن أضيع هذه الفرصة.


وخرج سعد بن خيثمة بهذه الروح، وهذا الصدق.


وقاتل سعد بن خيثمة، واستشهد، ودخل الجنة التي يريد.


اللطيف والجميل أن خيثمة أبوه، خرج في (غزوة أُحُد) بعد بدر بسنة، واستشهد أيضًا، أترون الصدق؟


وحتى بعد بدر، كل الناس يسألون عن الجنة.


الشعب كله طالبٌ الجنة.


موقف أم حارث بن سراقة
- أم حارثة بن سراقة استشهد ابنها حارثة في بدر، شاب صغير مات مقتولاً في مثل هذا الموقف، تطيش عقول، وتضطرب أفئدة، ويتزلزل رجال ونساء.


لكن أم حارثة جاءت تسأل عن شيءٍ محدَّد.


يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تَرَ ما أصنع.


أهمُّ أمرٍ بعد الموت: جنة أم نار؟ هذا هو المفروض أن يشغلنا.


فقال لها رسول الله:


"يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى"[12].


الله أكبر! لماذا؟ لأنه مات صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر.


استراحت أم حارثة، تقبلت أمر موت ابنها الشاب ببساطة وبصبر وباحتساب، بل بسعادة؛ لأن من يحب أحدًا يحب له الخير. ولا خير أحسن من الجنة.


هؤلاء هم أهل بدر، صفاتهم الجميلة كثيرة، لكن أهمها أنهم جيش مؤمن فعلاً، مؤمن بالله، ومؤمن بالرسول، ومؤمن بالجنة، ومن غير الإيمان مستحيل أن يكون هناك نصر.


حب الجنة منهج تربوي
صورة لحديقة معبر عن الجنة ومكتوب "حب الجنة منهج تربوي"


هذا الكلام لا نقوله كنوع من الترف الفكري، أو القصص التاريخي الذي ليس له واقع في حياة الناس.


هذا الكلام نريد أن يصبح منهج حياتنا، منهج تربية الأطفال والرجال والنساء، منهج تربية الشعب كله.


وبدونه لا توجد فرصة إصلاح.


دعكم من مناهج الشرق والغرب، ومناهج الإصلاح الوهمية المبنية في الأساس على طلب الدنيا وبأيِّ وسيلة.


هذه المناهج لا تُورِث إلا كآبةً وتعاسةً في الدنيا، وشقاءً وذلاًّ في الآخرة.


إياكم أن تظنوا أن الغرب والشرق من أصحاب المال والسلطة والجاه والملك يعيشون في سعادة.


أبدًا!!


فمَنْ يفقد منهم ماله ينتحر.


من يمت له ابن أو حبيب يكتئب، وينعزل عن المجتمع.


من يتعرض لمصيبة تصبح نهاية العالم بالنسبة له. من وجد نفسه فقيرًا، أو من عائلة صغيرة، أو في وضعٍ اجتماعي متدنٍّ، فإنه يعيش معقَّدًا حاقدًا على المجتمع، حاسدًا لكل الأغنياء، ومن الممكن أن يصير سارقًا أو قاتلاً أو مرتشيًا أو فاسدًا، ويعيش حياة الإجرام.


روى الحاكم عن أنسٍ أن رجلاً أسود أتى النبي، فقال: يا رسول الله، إني رجل أسود، منتن الريح، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل، فأين أنا؟ قال: "فِي الْجَنَّةِ". فقاتل الرجل حتى قُتِل، فأتاه النبيفقال: "قَدْ بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَكَ، وَطَيَّبَ رِيحُكَ، وَأَكْثَرَ مَالَكَ". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم[13].


أقلُّ أهل الجنة ملكًا له عشرة أمثال الدنيا، إذن لا مقارنة بين نعيم الجنة ومتاع الدنيا كلها.


الجنة فيها سلوى وتعويض لكل مؤمن فَقَدَ شيئًا من الدنيا.


الجنة فيها جزاء لكل من تعب، أو سهر، أو بذل مجهودًا في الإصلاح.


الجنة صبرَّت أم حارثة.


الجنة شجَّعت عمير بن الحمام، وعمير بن أبي وقاص، وسعد بن خيثمة، وحارثة بن سراقة. الجنة جعلت الحباب بن المنذر يقول رأيه لكي يفيد المسلمين.


الجنة جعلت المكروه محبوبًا، جعلت الموتَ مطلوبًا.


انظر ماذا قال الرسوللأصحابه ولنا:


"أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا (أي: لا مثل لها)، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فِي مَقَامٍ أَبَدًا، فِي حَبْرَةٍ ونَضْرَةٍ، فِي دُورٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ".


الصحابة y لم يعودوا قادرين على الصبر على فراق الجنة.


قالو: يا رسول الله، نحن المشمرون لها.


قال: "قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".


ثم يقول الراوي أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ثم ذكر الجهاد وحضَّ عليه[14].


إذن أعطاهم الرسولشيئًا عمليًّا يدخلون به الجنة. والحديث في صحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه.


يوم تملأ الجنة علينا حياتنا بهذه الصورة.


يوم تصبح الجنة هدفًا واضحًا في تفكيرنا.


يوم تصبح الجنة في عقلنا عندما نأخذ قرارًا، أو نعمل عملاً، أو نقول كلمة، أو نضحك ضحكة، أو نسافر أو نقعد، أو نحب أو نكره.


يوم تصبح الجنة محرِّكًا لكل حياتنا.


ساعتها سنرى نصرًا كنصر بدر.


وساعتها سنرى تمكينًا وعزة وسيادة، كما حدث بعد بدر.


ونسأل الله أن يفقهنا في سننه.


د. راغب السرجاني


--------------------------------------------------------------------------------

[1] الهيثمي: مجمع الزوائد، تحقيق عبد الله الدرويش، دار الفكر، بيروت، 1994م، 6/99، رقم الحديث (9954). قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات.

[2] رواه أبو داود (2665)، وأحمد (948)، وصححه الألباني.

[3] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص627.

[4] رواه أبو داود (4297)، وأحمد (22450)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (958).

[5] مسلم: كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (1909) ترقيم عبد الباقي، والنسائي (3162) ترقيم أبي غدة، وابن ماجه (2797) ترقيم عبد الباقي. قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (6276) في صحيح الجامع.

[6] مسلم: كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد (1901)، وأحمد (12421). قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (4426) في صحيح الجامع.

[7] تعلق: ترعى.

[8] رواه الترمذي (1641). قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (1559) في صحيح الجامع.

[9] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/21.

[10] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1971م، 2/410.

[11] الحاكم: المستدرك على الصحيحين، تحقيق مصطفى عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م، 3/209، رقم الحديث (4866). وعلق عليه الذهبي في التلخيص فقال: مرسل وإسناده ضعيف.

[12] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من أتاه سهم غرب فقتله (2654) ترقيم البغا، والترمذي (3174) ترقيم أحمد شاكر، وأحمد (13767).

[13] الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م، 2/ 103، رقم الحديث (2463).

[14] رواه ابن ماجه (4332) ترقيم عبد الباقي، وابن حبان في صحيحه (7381) ترقيم شعيب الأرناءوط.


admin
admin
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 13582
التقييم : 2521
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العمر : 57
غزوة بدر 3913
http://masrya.ahlamontada.org

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

السبت 27 نوفمبر 2010, 3:54 pm
صفات الجيش المنتصر
تتعدد وتتنوع صفات الجيش المنتصر، والحقيقة أننا أحوج ما نكون اليوم إلى التحلي بهذه الصفات؛ لأن النصر لا يكون إلا بها، كما انتصر بها السابقون، ومن هذه الصفات:



1- الإيمان بالله وبرسوله واليوم الآخر
فلا نَصْر بغير الاعتماد على الله؛ لأن الله ينصر عباده المؤمنين، يقول تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصَّافات: 173].



يخبر اللهأن حزبه وأهل ولايته هم الغالبون، ولهم الظفر، والفلاح على أهل الكفر. وأيُّ منهج لا يقوم على الكتاب والسُّنَّة والتمسك بالعقيدة، فلن يكتب له النصر والنجاح.



2- العمل بصدق للوصول إلى الجنة
وأَنْعِم بها من غاية يُسعى لها، والقائد لا ينعزل عن جيشه، ولا الحاكم عن المحكومين، فهو جيش نشيط، ومتفائل، وجريء، وشجاع يطلب الموت، ويقبل عليه أينما كان، طالما أن الموت سيكون في سبيل الله.



3- الشورى
فهو جيش يأخذ بالشورى كمبدأ أصيل للوصول إلى الحق، والشورى تكون فيما لا نصَّ فيه، يقول تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشُّورى: 38].



ويقول تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. فهذا أمرٌ من اللهلرسوله بمشاورة المسلمين في الأمور التي لا نصّ فيها، والأخذ بالرأي الصواب والنزول عليه، ورأينا مشورة النبيلأصحابه في كل شيء، ورأينا أخذه برأي الحباب بن المنذر بالانتقال من هذا المكان، وأن يكون ماء بدر خلف المسلمين بحيث يشرب المسلمون، ولا يشرب المشركون، وكان الأخذ برأي الحباب سببًا من أسباب النصر.



4- يُعِدُّ العدة المادية من سلاح وخطة وتدريب من أجل تحقيق النصر
يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. جاءت كلمة (قوة) نكرة كي تدل على الشمول، أي: أعدوا لهم قوة العقيدة والقوة البدنية وقوة السلاح وقوة العلم وكل قوة.



وأما قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، قال ابن عباس: تخزون به عدو الله وعدوكم.



5- الألفة والوَحْدة والترابط والتناسق التي تربط بين أفراد الجيش
فهو جيش قوي ومتماسك يحب بعضه بعضًا في الله، يحكمه مبدأ العقيدة؛ فالرباط الذي يربط بين جيش بدر هو رباط العقيدة، فالإسلام هو الذي يربط بين أفراد الجيش، فالحب في الله يجمع كل أفراد الجيش، وجيش بدر تحكمه الوحدة، فلا فضل في الجيش لأحدٍ على أحد، ولا فرق بين العربي وغير العربي، فكان في الجيش بلال بن رباح الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، فكان هناك تلاحم وترابط بين أفراد الجيش، سواء كان عربيًّا أو أعجميًّا.



وتعالَوْا نرى مقتل عدوّ الله أميَّة بن خلف، حتى نرى قوة التلاحم بين أهل بدر، فهم طوائف مختلفة ولكن يجمعها الإسلام؛ فالمهاجرون كانوا من العدنانيين، والأنصار كانوا من القحطانيين، فرعان مختلفان جمعهم أخوة الإسلام؛ فبلال بن رباح لم يشعر بالغربة في هذا الجيش العربي مع أنه حبشي؛ ففي موقعة بدر رأى بلال بن رباح أمية بن خلف وابنه بعد أن تأكدا من الهزيمة، ورأى عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف وابنه وكانت معه أدراعٌ في يده، فلما رأى أمية عبد الرحمن بن عوف قال: هل لك فيَّ؛ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك؟ أما لك حاجة في اللبن؟ أي: مَن يأسرني فسوف أعطيه فدية كبيرة من الإبل.



فقال بلال -لما رأى رأس الكفر أمية بن خلف-: لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أيْ بلال، أسيريّ. قال: لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أتسمع يابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجا. ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا ثم جعلونا في مثل المَسَكَةِ[1]، وأنا أذبُّ عنه. قال: فضرب رجل ابنه فوقع. قال: وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قطُّ. قال: قلت: انجُ بنفسك ولا نجاءَ، فوالله ما أغني عنك شيئًا. قال: فهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالاً، ذهبت أَدْراعي، وفجعني بأسيري[2].



فعبد الرحمن بن عوف t يقدِّر الحالة النفسية لبلال t، وهو يرى أمية بن خلف الذي كان يصبُّ عليه صنوف العذاب، هل يتركه بلال بعد ذلك يفرُّ من الموت بعد أن يفدي نفسه ببعض المال؟! إن الرباط الذي كان موجودًا في السابق هو رباط القبيلة، فأهل الجاهلية قالوا: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا؛ ينصر أخاه حتى ولو كان ظالمًا، بل ويساعده على الظلم، حتى إن أحد شعراء الجاهلية يقول:



بغاة ظالمين وما ظُلمنا ... ولكنَّا سنبدأ ظالمينا[3]



أما الرسولفقد قال نفس الكلمة، ولكن بتعديل كبير في الفكر والتصور والمفهوم؛ قال رسول الله: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا، كيف أنصره؟ قال: "تَحْجِزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ"[4].



فالصواب أن ينصر الإنسان أخاه في الخير والعدل فقط، أما إن ظَلَم فأَعْمَلُ بشتى السبل والطرق بردِّه عن ظلمه، وأكبر ظلمٍ في الدنيا هو الشرك بالله، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].



6- هو جيش كفءٌ
فأحيانًا يكون الحق موجودًا ولكن لا يوجد مَن يطلبه ويحسن الطلب فيضيع الحق، فالمسألة مسألة أمانة، فقد جاء رجل إلى النبيوسأله عن الساعة، فردَّ عليه الرسول: "إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". فقال الرجل: وكيف إضاعتها؟ فقال: "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"[5].



فهذه مشكلة كبيرة تواجهها الأمة الإسلامية في وقتها الحالي، فتوسيد الأمر إلى أهله يؤدِّي إلى التقدم والتفوق؛ لأنه يؤديه على أكمل وجه، يقول تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]. فالقوي هو الكفء، فلا بد أن يكون كفئًا قويًّا في كل شيء، سواء في مجال الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو التعليم أو أيِّ مجال، وأمينًا بحيث يخاف الله، وأنه مطّلعٌ عليه ويراقبه في سرِّه وعلنه، فلا يغش ولا يدلس، ولا يبخل برأي. وهذا ما نراه في جيش بدر، فهو جيش يتميز بالأمانة والكفاءة؛ احترافية في الأداء، ومهارة في المناورة، وقوة في النزال، ودقة رأي وبُعد نظر، ومع ذلك يتميز بالأمانة، ومراقبة الله.



7- الحسم وعدم التردد، والإقدام على القتال
وقد سطَّر الصحابة رضوان الله عليهم صفحات بيضاء سوف تظل نورًا يستضيء به المسلمون إلى قيام الساعة {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. فالتسويف يؤدِّي إلى التردد، والتردد يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير صحيحة، والقرارات غير الصحيحة تؤدي إلى الهزيمة.



8- عدم الاعتماد على الكافرين
رفض رسول اللهأن يخرج معه للقتال يوم بدر إلا من كان مؤمنًا، ولا يستعين بمشركٍ إلا في بعض الأمور البسيطة المعروفة في كتب الفقه. يروي مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن رسول اللهخرج قبل بدر، فلما كان بحَرَّة الوَبَرة أدركه رجلٌ، قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول اللهحين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله: جئتُ لأتبعك، وأصيب معك. قال له رسول الله: "تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟" قال: لا. قال: "فَارْجِعْ؛ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ".



قالت: ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبيكما قال أول مرة؛ قال: "فارجع؛ فلن أستعين بمشرك". قالت: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟" قال: نعم. فقال له رسول الله: "فانطلق"[6].



سبحان الله! مع قوة الرجل وبأسه وكفاءته، إلا أن رسول اللهلم يأذن له بشهود القتال؛ لأنه ليس مؤمنًا، وقد يخدع المسلمين أو تأتي من قِبَله الهزيمة. وفي بعض الأوقات يكون الرجل أمينًا ولكن ليس قويًّا، فقد ردَّ الرسولبعض الصحابة؛ وذلك لأنه رأى فيهم بعض الضعف لصغر سنِّهم، مع علمه التام بأمانتهم ورغبتهم الصادقة في القتال.



9- الاعتماد على الشباب، والارتقاء بهم
فقد ردَّ الرسولعبد الله بن عمر والبراء بن عازب لضعفهم وصغر سنِّهم، وقَبِل بعض الصحابة الصغار في السن؛ لأنه رأى أن فيهم بعض القوة والجلد مثل عمير بن أبي وقاص، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ومُعَوِّذ بن عفراء.



وتميّز الجيش بكونه من الشباب؛ فمعظم المشاركين في غزوة بدر كانوا من صغار السن، فمتوسط عمر الجيش لم يتجاوز الثانية والثلاثين، فالدعوة تعتمد على الشباب؛ لهذا قال الرسول: "نَصَرَنِي الشَّبَابُ وَخَذَلَنِي الشُّيُوخُ"[7]. فالمشاركون في غزوة بدر معظمهم من الشباب الصغير، وشهداء بدرٍ كان معظمهم من الشباب صغير السن، والمواقع القيادية كانت في يد الشباب؛ راية المهاجرين كانت مع عليِّ بن أبي طالب وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين، وحامل راية الأنصار سعد بن معاذ في الثانية والثلاثين من عمره، وحامل الراية العامَّة للجيش كله مصعب بن عمير لم يتجاوز السابعة والثلاثين أو الثامنة والثلاثين.



فالشباب هم عماد الأمة، وعلى عاتقهم ترتفع الأمم، وهم الذين قام النصر على أكتافهم يوم بدر، وهم طاقة هائلة تحقق النصر والعزة لو أحسنَّا توجيههم، فكيف يكون الشباب هم عماد الأمة ثم نشغلهم بأشياء تافهة، لا قيمة لها. وليس معنى هذا التقليل من دور الشيوخ، ولكن نستفيد من خبرتهم وتجاربهم وآرائهم، وهي من الأهمية بمكان.



10- روح الأمل والتفاؤل واليقين في نصر الله لهذه الأمة
فاللهينصر عباده المؤمنين {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]. ويقول تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].



الثبات نعمة من عند الله
إذا فقدت الأمة صفة واحدة من الصفات العشر لا ينتصر المسلمون، وسوف نرى ذلك في غزوة أُحُد. وإذا تمسك المسلمون بهذه الصفات العشر، رزقهم الله نعمةَ الثبات، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15].



ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. وعند الحديث عن المطر، يقول: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]. وعن الملائكة يقول: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12].



فلا يُمنح الثبات إلا من قدَّم الصفات العشر السابقة، وإذا ثبت المسلمون في أرض المعركة أنزل الله عليهم النصر من عنده، فالنصر يأتي بطريقة يعرفها المسلمون، وبطريقة لا يتوقعونها حتى ينسب المسلمون النصر إلى الله، يقول تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].



فبعض المسلمين كره لقاء جيش بدر {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]؛ فكانوا يتوقعون الموت المحقق للمسلمين، ونزلت الملائكة من السماء تساند جيش الإيمان.



الأخوة أخوة العقيدة
ظهر في يوم بدر واتّضح تغلب العقيدة على عاطفة النسب، فقد قتل عمر بن الخطاب t خاله العاص بن هشام بن المغيرة؛ فالرباط الموجود في ذلك اليوم هو رباط العقيدة، فكان الصحابي يقتل خاله، أو ابنه، أو عمه، أو أباه، وأبو بكر الصديق t كان يبحث عن ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر حتى يقتله، إنه شيءٌ صعب أن يقتل الإنسان ابنه أو يحاول إلحاق الضرر به، حتى ولو كان عاقًّا أو مشركًا[8].



فالرسوليشبِّه أبا بكر بنبي الله إبراهيم مع الفارق؛ لأن إبراهيم u كان سوف يذبح ابنه البارّ الطائع الذي أصبح نبيًّا بعد ذلك، أما أبو بكر فسوف يقتل ابنه العاصي الكافر، وأشدُّ الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم. ومصعب بن عمير في يوم بدر يرى أخاه أبا عزيز أسيرًا، فيوصي من أسره -وهو رجل من الأنصار- أن يشدَّ عليه؛ لأن أمَّه ذات متاع، ولعلها أن تفديه بمال كثير، فعندما أخذ أبو عزيز يلومه: أهذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك[9]. وهناك من يقول هذا تجردٌ من المشاعر الإنسانية، وأنه لا يشعر بأخيه من النسب، ولكن هذا هو قمة المشاعر الإنسانية، وهو توجيه المشاعر بكاملها لله، أن يعيش الإنسان لقضية ما يكرس لها كل جهده وطاقته لهذه القضية، فإذا كانت هذه القضية هي إرضاء الله، فهذه من أبلغ وأرقى المشاعر التي يتحلى بها الإنسان، ونحن نتكلم عن يوم قتال ونزال ومفاصلة، أما في أيام السلم والدعوة فهناك الرحمة والمعاملة بالحسنى مع صلة الرحم، يقول تعالى في سورة لقمان عن معاملة المسلم لوالديه المشركين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].



وأمر رسول اللهسعد بن أبي وقاص أن يعامل والدته المشركة بالرفق واللين.



د. راغب السرجاني


--------------------------------------------------------------------------------

[1] المسكة: الأسْوِرَة.

[2] صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص205.

[3] القائل عمرو بن كلثوم الشاعر الجاهلي.

[4] رواه البخاري (6552) ترقيم مصطفى البغا، والترمذي (2255) ترقيم أحمد شاكر، وأحمد (13101) طبعة مؤسسة قرطبة.

[5] رواه البخاري (59)، وأحمد (8714).

[6] رواه مسلم (1817) ترقيم عبد الباقي، والترمذي (1558)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1101).

[7] حديث لا أصل له.

[8] المباركفوري: الرحيق المختوم ص205.

[9] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1976م، 2/475.


admin
admin
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 13582
التقييم : 2521
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العمر : 57
غزوة بدر 3913
http://masrya.ahlamontada.org

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

السبت 27 نوفمبر 2010, 3:55 pm
النصر من عند الله
تحقق النصر يوم بدر بفضل من الله، يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]. فهذا أسلوب قصر يوضح أن النصر لا يكون إلا من عند الله، فالنصر يكون عن طريق الله، وهو لا ينزل إلا على عباد الله المؤمنين، فالنصر ربما يأتي من حيث لا يتوقع المسلمون، وأحيانًا يأتي النصر من حيث يكره المسلمون، وقد يأتي النصر بطريقة تثبت أن النصر من عند الله، وفلسفة النصر في الإسلام تؤكد أنه من عند الله، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [الأنفال: 10].


فما هي جنود الرحمن التي شاركت في تحقيق النصر؟ يقول تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدَّثِّر: 31].


الملائكة
نزلت الملائكة تقاتل مع عباد الله المؤمنين، وثبَّتت الذين آمنوا، يقول تعالى عن يوم حُنين: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].


وقال تعالى عن يوم الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].


ويقول تعالى عن يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]. أيْ: متتابعين يردف بعضهم بعضًا، أو عونًا لكم. يقول الربيع بن أنس -وهو من التابعين-: "أمدَّ الله المؤمنين بألفٍ، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف"[1].


يقول تعالى في سورة آل عمران يصف موقعة بدر: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آَلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124، 125]. و"مسوِّمين" أي: مُعلَّمين بعلامات. وهذا عدد كبير من الملائكة، وكان يكفي مَلَك واحد، فلماذا كل هذا العدد؟


إن نزول هذا العدد الكبير لأجل إدخال السرور والفرح على المؤمنين، يقول تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آَلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 123- 125].


فقد كان ملك واحد يكفي، ولكن هذا العدد الكبير كان لإدخال السرور والبِشْر والفرح على قلوب المؤمنين، يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 10].


والملائكة خلقٌ عجيب {لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم: 6]. وهم قوة خارقة جبَّارة، فقد رفع جبريل قرية لوط إلى السماء حتى إن أهل السماء قد سمعوا نباح الكلاب، ثم قَلَبَها على طرف جناحه. والملائكة التي اشتركت في يوم بدر هم مجموعة منتقاة، فهم مجموعة من أفضل الملائكة، روى البخاري عن رفاعة بن رافع قال: جاء جبريل إلى النبيفقال: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قال: "مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ"، أو كلمة نحوها. قال: "وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ".


وهذا رسول اللهيصف للصحابة نزول الملائكة من السماء تقاتل مع المسلمين؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبيقال يوم بدر: "هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ"[2]. فجبريل بنفسه نزل يشارك في الموقعة، وأتى وهو يمسك بلجام فرسه، والتراب يتصاعد من حول الفرس، ومن ورائه ألف من الملائكة ترفع سيوفها وعليها عدة الحرب، فهل يخاف المسلمون وهم يرون هذا المدد الكبير من الملائكة؟! وكما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].


والصحابة سمعوا عن الملائكة من الرسول، بل إن منهم من سمع الملائكة بنفسه، أو رآه رأي العين؛ روى مسلم عن ابن عباس: بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حَيْزُوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيًا. قال: فنظر إليه فإذا هو قد حُطِم وشُقَّ وجهه كضربة السوط، فاخضرَّ ذلك أجمعُ. فجاء الأنصاري فحدَّث ذلك رسول الله، قال: "صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَة"[3]. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعلّمون ضربات الملائكة يوم بدر بأنها تترك أثرًا لونه أخضر على جسد الكافرين.


وروى الإمام أحمد عن أبي داود المازني t -وكان شهد بدرًا- قال: "إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصلَ إليه سيفي، فعرفتُ أنه قد قتله غيري"[4].


ويروي أحمد t عن علي بن أبي طالب t: جاء رجل من الأنصار قصيرٌ بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق (بين السواد والبياض)، ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله. فقال: "اسْكُتْ؛ فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ"[5].


والعباس خرج يوم بدر مستكرهًا مع المشركين، وكان لا يريد القتال، وكان لا يزال على دين الآباء، وكان فارسًا قويًّا جَلَدًا، ومع ذلك يأسره هذا الصحابي القصير، كما يقول علي بن أبي طالب t.


الرعب
كان الرعب أحد جنود الرحمن في يوم بدر، وكان الرعب سببًا من أسباب النصر؛ روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: "نُصِرْتُ بِالرُّعَبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"[6]. وفي رواية أحمد: "وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ"[7].


فقبْل أن يصل رسول اللهإلى العدوِّ بمسيرة شهر يدخل في قلوبهم الرعب، فالرعب يدخل في قلوب كل الناس، ولكن العجيب أن يدخل في قلب القويّ فيخاف من الضعيف، وأن يدخل الرعب في قلب الكثير فيخاف من القليل، أو يدخل الرعب في قلب المدجج بالسلاح فيخاف من الأعزل، وإننا نرى طفلاً صغيرًا يحمل حجرًا، ويهدد به جنديًّا مدججًا بالسلاح، فيخاف أن يخرج من عربته المصفَّحة.


قال تعالى عن جيش المشركين في يوم بدر في سورة الأنفال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12].


فقد كان جيش الكافرين ثلاثة أضعاف المسلمين يوم بدر، ولكن اللهألقى الرعب في قلوب الكافرين، وقد رأينا الصواريخ وهي تضرب رجلاً أعزلَ قعيدًا على كرسيّ متحرّك، ونرى فرقة عسكرية كبيرة تهاجم رجلاً أعزلَ في منزله، ويجب ألا نتعجب من ذلك؛ لأن اللهملأ قلوبهم بالرعب.


الطمأنينة
ألقى اللهالطمأنينة والأمان الذي يصل إلى حدِّ النعاس في قلوب المؤمنين، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يقول تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].


فاللهكما أنزل الرعب في قلوب الكافرين، أنزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين.


المطر
أحد جنود الرحمن في يوم بدر، فاللهقد أنزل المطر على المؤمنين هيّنًا لطيفًا على منطقة، وأنزله وابلاً شديدًا في صورة سيل في منطقة أخرى، حتى يتطهر المسلمون، وتدخل الطمأنينة في قلوبهم، كما يقول تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].


فأطفأ اللهبالمطر الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم، وثُبِّتت به أقدامهم؛ يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشُّورى: 28].


فالمطر كان رحمةً بالنسبة للمسلمين، وبالاً على الكافرين. سبحان الله!


التقليل والتكثير في الأعداد
فاللهجعل المسلمين يرون الكافرين قلة، وكذلك رأى المشركون المسلمين قلة، وكان هذا لحكمة يعلمها اللهحتى تقع الحرب بين الطرفين؛ لأن اللهيدبِّر مكيدة للكافرين، حتى يطمعوا في إنشاب القتال، فيشربوا كئوس المنايا مكان الخمر، ويسمعوا صليل السيوف مكان القيان، يقول تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43].


فقد رأى النبيالمشركين قلة في منامه، وكان هذا لإدخال السرور على قلب رسوله.


ورأى المسلمون المشركين قلة في أعينهم، كما رأى المشركون المسلمين قلة في أعينهم، وكان هذا لحكمة يريدها اللهمن إنشاب القتال بين الفريقين، يقول تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 44].


وقال عبد الله بن مسعود t: قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أظنهم مائة[8]. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرون المشركين لا يتجاوزون المائة، وكذلك رأى المشركون المسلمين عددًا قليلاً لا يتجاوز المائة، يقول تعالى في سورة الأنفال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 44].


وكان أبو جهل يقول عن عدد المسلمين: إنما هم أكلة جزور[9]. أي أن المسلمين لا يتجاوزون المائة أو أقل. ويقول تعالى في سورة آل عمران: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].


فكل فريق كان يرى الفريق الآخر أقل مما هو عليه، وبعد بدء المعركة دخل في روع المشركين أن المسلمين ضعف المشركين، أي يصل عددهم إلى ألفين، سبحان الله! يقول تعالى عن ذلك: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].


رأى المشركون جيش الإيمان يصل إلى ألفين، ويرونهم رأي العين.


ومع أن المخابرات الإسلامية قد حددت عدد المشركين بين التسعمائة والألف، إلا أن المسلمين رأوهم قلة لا يتجاوزون المائة.


وفي هذا عِبْرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.


الفُرقة في صفِّ المشركين
لا شك أن فرقة الكافرين تضعف صفهم، وتشتت شملهم، وأحيانًا يسعى المسلمون لإحداث هذه الفُرقة لتوهين قوة المشركين، كما حدث في غزوة الأحزاب، وتفريق نُعَيْم بن مسعود t لجموعهم بحيلة ذكية دبرها، وأحيانًا تحدث الفرقة دون تدخل المسلمين في ذلك، فيبعث الله جنديًّا من جنوده لتفريق جموع الكافرين. وبالفعل حدثت الفرقة في صفوف المشركين، فحدث نزاع وصراع بين قادة المشركين، وتبادل السباب والاتهامات، وانقسام الصف، وكلٌّ منهم يسعى لمصلحةٍ خاصة، وكل هذا حدث في أرض القتال؛ فكان له أثرٌ سيِّئٌ على جيش الكافرين، ورأينا انسحاب الأخنس بن شُرَيْق من ميدان المعركة بثلاثمائة من المشركين قبل بداية المعركة، فعندما يوجد الجيش المسلم الذي تتحقق فيه صفات الجيش المنصور، فسوف يُحْدِث الله الفُرقة بين المشركين، ويكتب للمسلمين الغلبة على الكافرين.


البركة
والبركة هي تضخيم النتيجة للفعل البسيط حتى تصبحَ النتيجة هائلة. وعلى سبيل المثال: الحجارة التي رماها رسول اللهفي وجه الكافرين يوم بدر، وقال: "شاهت الوجوه".


فقد أخذ رسول اللهيوم بدر ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وبحصاة في ميسرة القوم، وبحصاة بين أظهرهم وقال: "شاهت الوجوه"؛ فانهزموا، فذلك قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17].


إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفًّا من الحصى إلى وجوه جيش، فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء، ففعل الرمي هذا لا يؤدي إلى النتيجة الضخمة التي أحدثها؛ ولذلك قال الله: {وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. أي أن من أخذ الحصى إلى مرماه الحقيقي هو الله عزَّ وجلَّ.


مقتل أبي جهل في بدر
وفي مقتل أبي جهل العبرة والعظة، فهو من أبرع الفرسان العرب، وقائد المشركين في بدر، وكان محاطًا بكتيبة من المشركين، ومع ذلك يلقى مصرعه على يدي صبيَّيْنِ من المسلمين. ويروي لنا عبد الرحمن بن عوف ما حدث يوم بدر، فيقول: إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أَضْلَعَ[10] منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أُخبرت أنه يسبُّ رسول الله، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضًا مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان، هذا صاحبكم الذي تسألان عنه. فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبيفأخبراه، فقال: "أَيُّكُمَا قَتَلَه؟" قال كلٌّ منهما: أنا قتلته. قال: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟" قالا: لا. قال: فنظر النبيفي السيفين، فقال: "كِلاَكُمَا قَتَلَهُ". وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكان الآخر معاذ بن عفراء[11].


إنها البركة، فكيف يقتل صبيَّيان من المسلمين هذا الفارس العنيد الضخم. هذا صبي من المسلمين يقسم أن يقتل زعيم جيش الكافرين، وأبو جهل معروف بقوته وعنفه، ومع ذلك يقسم هذا الصبي الذي تربَّى على المنهج الإسلامي النقيّ، فيحكي معاذ بن عمرو بن الجموح قصة قتله لأبي جهل، فيقول معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحَرَجَة[12] وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطَنَّت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطير من تحت مِرْضخة النَّوى[13].


فالطبيعي أن يقتل أحد فرسان المسلمين الأقوياء أبا جهل، ولكنها إرادة الله أن يُقتل أبو جهل على يد صبيٍّ من المسلمين، فضربة من سيف معاذ تطيِّر ساق أبي جهل، فهذا شيء عجيب؛ لأن ضربة تطير ساق أبي جهل، لا بد أن تخرج من يد فارس قوي، ومتمرس على القتال، أما أن تكون هذه الضربة من هذا الصبي الصغير، ومع ذلك تقضي عليه، فهذا شيء يدهش الإنسان، وكيف يصل هذا الصبي إلى أبي جهل وهو محاط بعدد كبير من المشركين، فالله يريد أن يرينا جنديًّا من جنوده وهو البركة، فضربة ربما تكون بسيطة تفعل الكثير والكثير.


الرؤى والأحلام
والرؤيا يراها المسلمون تبشرهم بنصر الله، ويراها المشركون فتحطم معنوياتهم، وتنزل اليأس والهزيمة في نفوسهم، فلا شك أن الرؤى والأحلام لها أثر سيئ في المشركين، وكانت سببًا من أسباب النصر، وهذا الكلام نجد له شواهد كثيرة على مدار التاريخ الإسلامي.


هذه رؤيا رآها جُهَيْم بن الصَّلْت بن المطلب أحد أقارب النبي، ولكنه لم يؤمن؛ فقبْل غزوة بدر رأى في منامه حيث نام فأغفى، ثم فزع فقال لأصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقف عليَّ آنفًا؟ فقالوا: لا، إنك مجنون. فقال: قد وقف عليَّ فارس آنفًا. فقال: قُتِل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختريّ وأمية بن خلف. فعدَّ أشرافًا من كفار قريش. والرؤيا انتشرت في مكة كلها، حتى وصلت إلى أبي جهل، فقال: "وهذا أيضًا نبيٌّ من بني عبد المطلب، سيعلم غدًا مَن المقتول إنْ نحن التقينا"[14]. ولا شك أن لهذه الرؤيا أثرًا سيئًا على المشركين.


وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب -وهي عمة رسول الله، وقد اختلف في إسلامها، والراجح أنها لم تسلم- قَبْل قدوم ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة بثلاث ليال، رأت رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني، وخشيت أن يدخل على قومك منها شرٌّ ومصيبة، فاكتم عليَّ ما أحدثك. قال لها: وما رأيتِ؟ قالت: رأيت راكبًا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غُدُر (أهل مكة) لمصارعكم في ثلاث؛ فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مَثَلَ به بعيرُه على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث؛ ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرْسَلَها، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقة. فقال العباس: والله إن هذه لرؤيا رأيت، فاكتميها ولا تذكريها لأحد.


ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقًا، فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش. قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود، يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا. قال: فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم. فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حَدَّثت فيكم هذه النبيَّة؟


قلت: وما ذاك؟ فأراد العباس أن ينكر.


قال أبو جهل: الرؤيا التي رأت عاتكة؟


قال العباس: وما رأت؟


قال أبو جهل: "يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبَّأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فإن يكُ ما قالت حقًّا فسيكون، وإن تمضِ الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب"[15].


هذه فرصة لأبي جهل أن يشمت في بني عبد المطلب؛ لأنه سباق طويل بين بني عبد المطلب وبين بني مخزوم قبيلة أبي جهل، وما منع أبا جهل أن يؤمن - مع أنه يعلم أن محمدًا رسول الله - هو أن الرسولمن بني عبد المطلب القبيلة المنافسة لهم، وهذه أشياء من آثار الجاهلية التي قد هدمها الإسلام.


وقبل أن تمرَّ ثلاثة أيام جاء ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره، قد جَدَّع بعيره، وحوَّل رحله، وشَقَّ قميصه وهو يقول: "يا معشر قريش، اللطيمةَ اللطيمةَ، أموالكم مع أبي سفيان قد عَرَض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ الغوثَ"[16]. فتحققت رؤيا عاتكة، وخرج جيش مكة وهو يشكُّ في النصر بسبب هذه الرؤيا.


ورأينا على مدار التاريخ أهل الكفر وهم يرون رؤى الهزيمة قبل نشوب القتال، فهذا رستم قائد الفرس يرى رؤى الهزيمة من المسلمين في أرض فارس، ورأى هرقل قائد الروم رؤيا تنعي إليه هزيمة الرومان في بلاد الشام، وغير ذلك كثير.


أما على الجانب الآخر فنرى رُؤَى المؤمنين تبشرهم باقتراب وعد الله لهم بالنصر، وكسر شوكة الكافرين؛ ففي ليلة بدر يرى الرسولرؤيا توضح قلة عدد المشركين في المعركة، وما رآه المسلمون قبل نشوب القتال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43].


يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ } أي: لجبنتم. {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} في أمر القتال وتفرقت آراؤكم. {وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ} أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.


فالرسوليقول: "الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ"[17]. فكان لهذه الرؤى أثرٌ إيجابيٌّ كبير في المؤمنين، وأثرٌ سلبيٌّ كبير في الكافرين.


أبو جهل
وهو أعجب جنديٍّ من جنود الرحمن، فهو الذي دفع المشركين للقتال في بدر، ودفع أئمة الضلال، وأساطين الشرك للخروج إلى بدر بعد أن نجت قافلة أبي سفيان بن حرب، وكما دفع فرعون جنوده للدخول في البحر لملاحقة موسى u ومن آمن معه، فسقوا كئوس المنايا في مياه البحر، دفع أبو جهل جنوده للقتال في بدر، ودفعهم للخروج من مكة، وقهر أمية بن خلف وعتبة بن ربيعة للخروج، وقهر قريشًا كلها للذهاب إلى بدر، وقال: "والله لا نرجع حتى نَرِد بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجزور، ونشرب الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا"[18].


فلو تعقل أبو جهل لما خرجت قريش إلى بدر، ولما قُتل أئمة الكفر، ولما كان يوم الفرقان، ولكن ما كان له أن يتعقل؛ فهو جندي من جنود الرحمن شاء أم أَبَى، حتى يقع ما قدَّره الله.


الشيطان
اجتهد الشيطان كل الاجتهاد حتى يقع القتال فلم يكتفِ بالوسوسة، ولكن جاء في صورة سُراقة بن مالك سيِّد بني كِنانة ليجيرهم من بني بكر، فقد خرج معهم إلى بدر، وقال لهم: إني جار لكم. فلما رأى الملائكة تقاتل في ميدان المعركة -وإبليس يعرف الملائكة تمام المعرفة من قبلُ- فرَّ من المعركة، فلما رآه أحد المشركين -وهو الحارث بن هشام- يفر من المعركة، قال له: إلى أين يا سراقة؟ ألم تقل لنا أنك جار لنا؟ فقال له إبليس: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله رب العالمين.


يقول تعالى في سورة إبراهيم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].


وقال الله تعالى في سورة الأنفال: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48].


فهذا دأب الشيطان يَعِدُ الناس ويمنِّيهم، ثم يتركهم بعد ذلك في وقت الأزمات، ولو كان الشيطان يعلم الغيب لما خرج يوم بدر، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله.


وجنود الله أكثر من ذلك بكثير، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدَّثِّر: 31]، {وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح: 7]؛ وبذلك نفهم قوله تعالى في سورة الأنفال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17].


وفي الغزوات القادمة سوف نرى جنودًا كثيرة لله.


كل ما سبق يصبُّ في قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].


وهذان موقفان يدلان على فَهْم الصحابة لنصر بدر، فهذا علي بن أبي طالب t يدلِّل لنا على أن النصر من عند الله فيقول: "فقتل الله عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة"[19]. مع أن علي بن أبي طالب كان من الثلاثة الذين بارزوا يوم بدر، فهو لا ينسب النصر لنفسه أو لأحد من المسلمين، ولكن ينسبه لله.


وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال: "خرجنا مع رسول الله، فشهدت معه بدرًا، فالتقى الناس فهزم الله العدو"[20].


فهذا الفَهْم هو الذي حقق لهم النصر، فعندما نعلم أن النصر من عند الله، فسوف نرى أن نصرَ الله قريبٌ. نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمعنا دائمًا على الخير.


د. راغب السرجاني


--------------------------------------------------------------------------------

[1] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420هـ- 1999م، 2/112.

[2] البخاري: كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا (3773).

[3] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (1763).

[4] رواه أحمد (23829)، وصححه شعيب الأرناءوط.

[5] رواه أحمد (948)، وصححه شعيب الأرناءوط.

[6] رواه البخاري (328)، ومسلم (521)، والنسائي (432) ترقيم عبد الفتاح أبي غدة.

[7] رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو (7068).

[8] ابن كثير: السيرة النبوية 2/406.

[9] المباركفوري: الرحيق المختوم ص197.

[10] أضلع: أقوى.

[11] البخاري: كتاب الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلاً فله سلبه من غير أن يخمس وحكم الإمام فيه (2972). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل (1752).

[12] قال ابن هشام: الحرجة: الشجر الملتف.

[13] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص634، 635.

[14] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص618.

[15] ابن كثير: السيرة النبوية 2/382.

[16] السابق نفسه 2/383.

[17] رواه مسلم (2263)، وابن ماجه (3914)، وأحمد (4678، 16227)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1869، 1870).

[18] ابن كثير: السيرة النبوية 2/399.

[19] رواه أحمد (948)، وصححه شعيب الأرناءوط.

[20] رواه أحمد (22814)، وحسنه الأرناءوط.


admin
admin
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 13582
التقييم : 2521
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العمر : 57
غزوة بدر 3913
http://masrya.ahlamontada.org

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

السبت 27 نوفمبر 2010, 3:56 pm
يوم الفرقان
كانت غزوة بدر من أعظم الغزوات في تاريخ المسلمين، وهي كما سماها رب العالمين I يوم الفرقان، وإذا سمَّى اللهغزوة أو يومًا بهذا الاسم، فما من شك أنها فصلت بالفعل، وفرَّقت بين مرحلتين مهمَّتين من مراحل الدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية.


وإذا نظرت إلى حال الأمة الإسلامية قبل وبعد غزوة بدر، فإنك تلاحظ الفارق الهائل بين الحالين، فقد كان لغزوة بدر أثرٌ كبيرٌ، ليس فقط على المدينة المنورة أو مكة المكرمة، بل على الجزيرة العربية كلها وعلى العالم بصفة عامة، وما زال لغزوة بدر آثارٌ إلى يومنا هذا، وسيكون لها الأثر إلى يوم القيامة.


آثار غزوة بدر على المسلمين
الأثر الأول: الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية
هذا هو الأثر الأول والأعظم لهذه الغزوة العظيمة؛ الميلاد الحقيقي للأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بقيادة الرسول، وعلى أكتاف الجيش الإسلامي الذي ولد في هذه الغزوة قامت دولة الإسلام، وقد عرف صحابة النبيصفات الأمة المنتصرة وصفات الجيش المنتصر، ودرسوها جيدًا وطبَّقوها في كل المعارك التي انتصر فيها المسلمون، وإذا خالف المسلمون نقطة أو بعض النقاط من هذه الصفات تأتي الهزيمة والمصائب.


ومن هنا كانت غزوة بدر مقياسًا ومعيارًا يجب أن يقيس عليه المسلمون أحوالهم، فإن كانوا يطابقون هذه الصفات وهذه الأحوال فلله الحمد والمنّة والفضل؛ وإن كانوا غير ذلك فلا بد أن يعدِّلوا مسارهم؛ ليعودوا إلى الطريقة التي سار عليها أهل بدر y أجمعين.


إن أمة الإسلام ولدت بعد غزوة بدر وأصبح لها هَيْبَة في الجزيرة العربية بكاملها، وبدأ أهل الجزيرة العربية جميعًا يتساءلون عن الإسلام وعن المسلمين، فقد كانوا قبل ذلك يعتقدون أن الأمر مجرد اختلاف داخلي في مكة، فهو مجرد رجل ظهر في مكة بينه وبين قومه خلاف وظهر لهذا الرجل أتباع، وهؤلاء الأتباع لهم أعداء، فكانت الحرب الداخلية الأهلية في داخل مكة المكرمة، ثم كانت الهجرة التي لفتت أنظار العرب، لكن اللفت الحقيقي للأنظار كان بعد غزوة بدر؛ فكان الانتصار الضخم الهائل الذي حققه المسلمون كفيلاً بأن يسأل كثيرٌ من الناس عن الإسلام وعن المسلمين. ولا شك أن هذا الأمر فتح للإسلام قلوبًا كثيرة، فكان هذا الأثر هو أول الآثار وأعظمها، وبدأ الرسولينظم دولته كدولة مستقلة، لها كيانها ولها احترامها ولها مكانتها العظيمة في داخل الجزيرة العربية.


الأثر الثاني: الأثر الإيجابي على المسلمين في المدينة ممن لم يشهدوا الغزوة
لما وصلت أخبار هذه الغزوة إلى المدينة المنورة اختلطت بعض المشاعر في قلوب المؤمنين؛ مشاعر الفرح والسرور بهذا النصر العظيم بمشاعر الندم لعدم المشاركة في هذا النصر العظيم، فقد كان نصرًا كبيرًا وعظيمًا، والتفّ المسلمون حول البشير الذي جاء بالخبر، وكان زيد بن حارثة t، يطمئِنُّون على النبيالذي لم يرجع مباشرةً من بدر، فقد مكث في أرض بدر ثلاثة أيام كعادة الجيوش المنتصرة، وبعد ذلك رجع إلى المدينة المنورة؛ فكان خبر النصر سابقًا لرجوع النبي، واستقبلت وفود التهنئة الرسولبمنتهى الترحاب والفرح والسرور، وفي الوقت نفسه جاء الكثير من الأنصار يعتذرون من عدم مشاركتهم في هذه الغزوة مع رغبتهم الأكيدة في الجهاد في سبيل الله، وهم لم يكونوا يعرفون أن هناك قتالاً، ومن بينهم أُسيد بن حضير الذي جاء إلى النبيوقال: "يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك وأقرَّ عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًّا، ولكن ظننت أنها عيرٌ، ولو ظننت أنه عدو ما تخلّفت". فقال له: "صَدَقْتَ"[1].


فمشاعر الندم هذه التي كانت في قلوب الأنصار والمهاجرين الذين لم يشاركوا في غزوة بدر، سيكون لها أثرٌ إيجابيٌّ وواضحٌ في مقدمات غزوة أُحد كما سيتبيَّن لنا، فكان لغزوة بدر أثرٌ إيجابيٌّ كبير على الجيش المسلم، وأثرٌ إيجابي أيضًا على الذين لم يشاركوا، وقامت الدولة الإسلامية على أكتاف هؤلاء وهؤلاء.


آثار غزوة بدر على المشركين
مكانة قريش بين العرب بعد بدر
في الوقت الذي كان لغزوة بدر آثارها الإيجابية على المسلمين كان هناك أثرٌ سلبيٌّ على المشركين في مكة الذين فجعوا بهذا الحدث الضخم، فكانت بدر ضربة قاسمة هائلة لقريش، وهزة عظيمة جدًّا لكبرياء وكرامة وعزة قريش؛ فقد كانت أمنع قبيلة في العرب وأعز قبيلة، وصاحبة التاريخ المجيد، وكانت تحظى باحترام كل القبائل العربية، ولكن بعد (بدر) اهتزَّت مكانتها واختلف وضعها كثيرًا عن ذي قبل، فقد قُتل سبعون من المشركين ممن شاركوا في بدر، وأُسر سبعون آخرون، وهو عدد هائل وكبير بالمقارنة مع (سرية نخلة) التي قامت لها قريش ولم تقعد، وأشعلت حربًا إعلامية كبيرة ضد المسلمين، مع أنه لم يُقتل في هذه السرية غير واحد، ولم يؤسر غير اثنين. ووقعت قريش كلها في مأساة عظيمة بعد هذه الغزوة، والذين قتلوا من المشركين هم عمالقة الكفر وقادة الضلال وأئمة الفساد في الأرض، فمنهم فرعون هذه الأمة أبو جهل عليه لعنة الله، ومنهم الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيْط، وأمية بن خلف، وأسماء ضخمة جدًّا ومشهورة من هؤلاء السبعين الذين قُتلوا، وكان قتلهم جميعًا في يوم واحد[2].


وتخيَّل هذا الخبر عندما يصل إلى أسماع أهل مكة! وتعالَوْا نرى الْحَيْسُمان بن عبد الله الخزاعي، وهو مَنْ أبلغ الخبر إلى أهل مكة.


قالوا: "ما وراءك؟"


قال: "قُتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، في رجال من الزعماء سماهم". أي أنه ظل يذكر لهم زعماء ورجالات قريش الذين قُتلوا.


فلما قال ذلك، قال صفوان بن أمية بن خلف -وهو من قادة الكفر حينئذٍ-: "والله إن يعقل هذا -أي أنَّ هذا الرجل لا يعقل- فاسألوه عني".


فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ وهو لم يشارك في بدر.


فقال: "ها هو ذا جالسًا في الحِجْر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قُتلا".


ووقع الخبر كالصاعقة على أهل قريش، ولم يصدِّقوا ما قال لهم الحَيْسُمان، وانتظروا رسولاً آخر يخبرهم بالخبر اليقين، فلا يُعقل أن يُقتل كل هؤلاء وفي يوم واحد. ثم جاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم الرسول، فأول من رآه أبو لهب -وهو لم يخرج في غزوة بدر- فقال أبو لهب لأبي سفيان: "هلم إليَّ؛ فعندك لعمري الخبر".


فجلس إليه والناس قيام عليهما، فقال أبو سفيان: "ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا". ثم يقول كلمة عجيبة: "وايم الله مع ذلك ما لُمْتُ الناس، لقِيَنَا رجالاً بيضًا على خيل بَلْق (أي بيضاء) بين السماء والأرض، والله ما تُليق شيئًا (أي: ما تترك أمامها شيئًا)، ولا يقوم لها شيء"[3]. وأبو سفيان يصرِّح بهذه الكلمات أمام المشركين، وهم يسمعون ولا يصدقون ولا يؤمنون.


وكان ممن حضر هذا الموقف من المسلمين الذين يخفون إسلامهم، أبو رافع t، وهو غلام العباس بن عبد المطلب وقد أُسر العباس في بدر، قال أبو رافع: "تلك والله الملائكة ". يقول أبو رافع: "فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورْتُه[4]، فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك عليَّ يضربني، وكنت رجلاً ضعيفًا، فقامت أم الفضل -وهي زوج العباس رضي الله عنها وكانت تكتم إسلامها- إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربةً فلقت في رأسه شجَّةً منكرة، وقالت: تستضعفه أنْ غاب عنه سيده؛ فقام مولِّيًا ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعَدَسة[5] فقتلته، فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثًا ما يدفنانه حتى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما! ألا تستحيان؟! إن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه. قالا: إنا نخشى هذه القرحة. قال: انطلقا، فأنا معكما. فما غسلوه إلا قذفًا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه"[6].


وهذه النهاية لأبي لهب كانت بعد سبع ليال فقط من غزوة بدر، وفَقَد المشركون قائدًا آخر من كبار قوادهم بعد أن فقدوا هذا العدد من زعمائهم في بدر، وكانت نهايته في منتهى الخزي والعار والذلة والمهانة، مع أنه كبير بني هاشم، وكان من المفترض أن تكون هناك جنازة مهيبة لهذا القائد، وتَقْدُم وفود العرب لتعزّي في وفاته، لكن لم يحدث هذا؛ لأن العرب تتشاءم من المرض الذي مات به أبو لهب.


وكما نرى ترتَّب على انتصار المسلمين في بدر أزمات كثيرة للمشركين في مكة:


أولاً: أزمة سياسية: فقد فَقَدت قريش مكانتها بين العرب واهتزت هيبتها تمامًا.


ثانيًا: أزمة اجتماعية: فما من بيت في قريش إلا وقد أصيب منه واحد أو اثنان.


ثالثًا: الأزمة الكبيرة جدًّا والخطيرة أيضًا، وهي المشكلة الاقتصادية، حيث كانت قريش تعتمد على التجارة في رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وتمر إحدى الرحلتين على المدينة في طريقها إلى الشام، ووجود دولة في المدينة المنورة بهذه القوة بحيث إنها تسيطر على المداخل والمخارج المؤدية إلى الشام، هذه القوة -لا شك- ستمنع التجارة إلى الشام، ولو مُنعت التجارة مع الشام سقطت التجارة كُلِّيَّة في مكة، وستتأثر كذلك تجارة اليمن؛ لأنهم كانوا يأتون من الشام بما يبيعونه في اليمن، ومن اليمن بما يبيعونه في الشام، وهكذا.


فهي مأساة اقتصادية حقيقية لأهل مكة المكرمة، مع العلم أن قريشًا ما زالت متأثرة بأحداث سرية نخلة التي فقدت فيها قريش قافلة ثرية جدًّا، ثم نجت العير في بدر بصعوبة بالغة، ومن المستحيل أن تستمر التجارة مع الشام في ظل هذه الأجواء.


كان هذا هو حال مكة بعد بدر، ولا شك أن أهل الكفر لن يسكتوا على هذا الحادث، وهذا المصاب العظيم الذي أصابهم في بدر.


أثر غزوة بدر على الأعراب حول المدينة
كانت حياة الأعراب تقوم أساسًا على السلب والنهب، فكانوا لصوصًا وقطَّاع طرقٍ، وقيامُ دعوةٍ أخلاقيةٍ داخل المدينة المنورة ودولة قوية مثل دولة الإسلام، لا شك أن هذا الأمر سوف يحجِّم من السرقات وقطع الطريق الذي يقوم به الأعراب. وبعد أن انتصر الرسولفي غزوة بدر، بدأ الأعراب يفكرون في محاولةٍ لجمع أنفسهم للقيام بغزو المدينة المنورة؛ لمنع هذه القوة من التنامي.


جمعت بنو سُليم الأعداد وأعدَّت نفسها لتغزو المدينة، وقد عَلِم النبيهذا الأمر، فجمع صحابته y وانطلق إلى بني سُليم، وبمجرد أن رآه بنو سُليم فرُّوا في الجبال، وتركوا كل شيء، ورجعمن بني سليم بمجموعة كبيرة من الغنائم ما يقرب من خمسمائة بعير، وقد تمَّ تقسيمها على جيش المدينة المنورة. كان هذا الأمر بعد بدر بسبعة أيام فقط، وازدادت رهبة المدينة المنورة والدولة الإسلامية الناشئة في الجزيرة العربية كلها.


وعلى غرار بني سليم كان هناك أكثر من غزوة في السنة التي تلت غزوة بدر.

ظهور طائفة المنافقين
قبل بدر كان تقسيم الطوائف السكانية داخل المدينة المنورة: مسلمين ومشركين ويهود، لكن الآن وبعد بدر تغيُّر الوضع كثيرًا، فأصبحت الطوائف مسلمين ويهود، وتغيّرت شريحة المشركين فأصبحوا إما مسلمين عن اقتناعٍ بالإسلام، وإما منافقين.


إذن ظهرت طائفة جديدة لم تكن موجودة قبل ذلك في كل مراحل الدعوة النبوية، وهي طائفة المنافقين، وهم لا يظهرون إلا إذا قويت شوكة الإسلام والمسلمين، فكثرة المنافقين إنما هي علامة صحِّيَّة تشير إلى قوة دولة الإسلام، ومن ثَمَّ تُنَافق هذه القوة، لكن عندما كانت ضعيفة لم يفكر أحد من المشركين أن ينافقها. وعلى رأس هذه الطائفة من المنافقين كان الرجل الذي يكره رسول اللهكراهية شديدة، وهو عبد الله بن أُبيّ بن سلول؛ فبعد أن كان زعيمًا لمشركي المدينة أصبح زعيمًا للمنافقين في المدينة المنورة، وقد جاء هؤلاء المنافقون جميعًا بعد بدر يعلنون إسلامهم ظاهرًا وهم يبطنون الكفر في داخلهم، ولا شك أنه سيكون لهم الأثر السيئ على المسلمين في المدينة المنورة.


السيطرة العسكرية للمسلمين على الجزيرة العربية
استطاع المسلمون أن يصلوا إلى أماكن كثيرة من الجزيرة العربية، يظهر ذلك في سرية زيد بن حارثة، ولهذه السرية قصة رائعة ينبغي أن نقف عندها.


لما سيطر المسلمون سيطرة كاملة على شمال مكة المكرمة والطريق إلى الشام، بدأت قريش تفكر فيما ينبغي أن يفعلوا، والأمر جدّ خطير، فقد وقفت التجارة إلى الشام، وهذا عصب حياة أهل مكة، فاجتمعوا اجتماعًا كبيرًا وقال صفوان بن أمية لقريش -وكان قائدًا للحملة التي ينبغي أن تذهب إلى الشام في هذا العام-: "إن محمدًا وصحبه عوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نفعل بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل (ساحل البحر الأحمر)؟! وأهل الساحل قد وادعهم، ودخل عامَّتهم معهم، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا، فلم يكن لها من بقاء، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء".


فقام الأسود بن عبد المطلب وقال لصفوان ولمن معه من المشركين: "فَنَكِّبْ[7] عن الساحل وخُذْ طريقَ العراق"[8].


هذا الطريق طويل جدًّا يخترق نجد إلى الشام، ويمرُّ هذا الطريق شرق المدينة، لكنه على بُعدٍ كبير جدًّا منها، ولم تكن قريش تعرف هذا الطريق، وإن أرادت أن تسير فيه فلا بد من دليل ماهر لكي يمر بها من هذا الطريق الوعر والصعب جدًّا، حتى يصلوا إلى الشام. وبالفعل اختارت قريش هذا الطريق، وكان دليلهم فرات بن حيان من بني بكر بن وائل.


وخرجت عيرُ قريش بقيادة صفوان بن أمية، منطلقة في الطريق الجديد، وعلى الفور نقلت المخابرات الإسلامية أخبار هذه القافلة، وجهَّز رسول اللهسريعًا سرية بقيادة زيد بن حارثة t، وكان قوام هذه السرية مائة راكب، وانطلقت السرية مسرعة لقطع طريق هذه القافلة. وبالفعل نجحوا في الإمساك بالقافلة، وفرَّ صفوان بن أمية ومن معه، وبقي فرات بن حيان دليلُ القافلة، وأخذ المسلمون القافلة بكاملها وأُخذ فرات بن حيان أسيرًا، فكانت غنيمة كبيرة جدًّا من الأواني والفضة التي كانت تحملها القافلة للتجارة بالشام، وقد قُدِّرت قيمة هذه القافلة بمائة ألف دينار، قُسِّمت على أفراد السرية بعد أن أخذ منها النبيالخُمْس، وأسلم الأسير فرات بن حيان t بعد ذلك، فكانت هذه ضربة في منتهى القوة لقريش، ومأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشًا بعد بدر.


انظر فلاشة السيطرة العسكرية للمسلمين على الجزيرة العربية


كان ذلك في جمادى الآخرة سنة 3هـ، أي بعد عشرة أشهر من غزوة بدر، فكانت سيطرة المسلمين على الجزيرة العربية مستمرة وليست سيطرة عابرة، وكان لا بد -إذن- أن تتحرك قريش لهجوم كاسح شامل على المدينة المنورة، وكان هذا من مقدمات غزوة أُحُد.


د. راغب السرجاني


--------------------------------------------------------------------------------

[1] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1971م، 2/ 472.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص708- 710.

[3] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص646، 647.

[4] ثاورته: ثبت إليه.

[5] العدسة: قرحة قاتلة كالطاعون. وقد عدس الرجل: إذا أصابه ذلك.

[6] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1971م، 2/479.

[7] أي: اعتزل هذا الطريق واتركه.

[8] الواقدي: المغازي 1/197.


admin
admin
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 13582
التقييم : 2521
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العمر : 57
غزوة بدر 3913
http://masrya.ahlamontada.org

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

السبت 27 نوفمبر 2010, 3:57 pm
الأثر السلبي على المؤمنين بسبب الغنائم
كما كان لغزوة بدر أثر سلبي على المشركين؛ نتيجة للهزيمة المنكرة لهم من المسلمين، فقد كان لغزوة بدر أيضا أثر سلبي على المؤمنين؛ وكان هذا الأمر بسبب الغنائم التي حصَّلها المسلمون بعد غزوة بدر، ويصف عبادة بن الصامت t هذا الأمر فيقول: "حين اختلفنا في النَّفَلِ وساءت فيه أخلاقُنا"[1]. فهو t يتحدث عن الجيش المنتصر الذي يمتلك صفات عظيمة للغاية، إلا أنه في هذه القضية ساءت فيه الأخلاق، كما قال عبادة بن الصامت t.


ما قصة هذه الغنائم؟
بعد انتهاء الجولة الأولى من غزوة بدر، وبداية ظهور ملامح النصر الباهر للمسلمين، بدأ المشركون في الفرار، وبدءوا يلقون الغنائم خلفهم، فقسَّم المسلمون أنفسهم ثلاثة أقسام: قسمٌ منهم يحمي رسول اللهخوفًا عليه من محاولة اغتيال أو مثل ذلك، وقسمٌ آخر يتبع الفارّين من المشركين، والقسم الثالث بدأ في تجميع الغنائم الموجودة على أرض المعركة. وبعد انتهاء المعركة اختلف الناس في توزيع هذه الغنائم، وكان حكم اللهلم ينزل بعدُ في أمر الغنائم، فقال الذين جمعوا الغنائم: "نحن حويناها وليس لأحد فيها نصيب". وقال الذين خرجوا في طلب العدو: "لستم أحق بها منا، نحن نَحَّينا عنها العدو". وقال الذين أحاطوا رسول الله: "خفنا أن يصيب العدو منه غرة؛ فاشتغلنا به"[2]. وبدأ نوع من الشقاق والخلاف بين المؤمنين.


أريد أن أقول: ليس معنى أن جيشًا يمتلك كل مقومات النصر أنه بلا أخطاء، فهم بشرٌ، وكل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون. حدث هذا الخلاف وأراد كل طرف أن يأخذ من الغنيمة، ما طبيعة هذه الغنيمة، إنها الدنيا!! ما من شك أن المسلمين جميعًا في المعركة كانوا يطلبون الآخرة، ومن ثَمَّ تمّ لهم النصر، ثم لما ظهرت لهم الدنيا، وهم لم يُختبروا قبل ذلك في شأن الدنيا، فقد ظلوا ثلاث عشرة سنة في مكة يذوقون فيها ألوانًا من القهر والتعذيب والبطش، والفقر والأذى المستمر، وعاشوا مدة أخرى في المدينة المنورة سنوات شاقة وعسيرة وصعبة، ثم إنهم لأول مرة يرون هذه الغنائم، وهم عندما خرجوا من المدينة المنورة كانوا في حالة فقر شديد، وكان النبييرفع يده ويقول: "اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَطْعِمْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ"[3].


والآن وعلى أرض بدر هناك غنائم ضخمة، وهم في حاجة شديدة، وهذه ليست مبررات الخطأ، ولكنها خلفياته؛ فحدث الخلاف والشقاق.


تعامل القرآن الكريم مع المشكلة
نزل القرآن الكريم يشرح للمؤمنين كيفية تقسيم الغنائم، ولكن قبل هذا أعطى لهم درسًا في غاية الأهمية، ونزلت سورة الأنفال وفي أول السورة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1].


يستنكر ربنا I على المسلمين الذين حققوا هذا الانتصار الباهر في غزوة بدر، أن يهتموا بأمر الدنيا للدرجة التي ينشأ فيها الخلاف بينهم بسببها {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].


ثم يُعلمِهم اللهما هو الإيمان، بعيدًا عن الجهاد والبذل والقتال في سبيل الله، وبعيدًا عن أرض بدر وما حدث فيها من أحداث ضخمة من أحداث الإيمان، يُعرِضُ عن ذلك كله ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2- 4].


ثم يوضح اللهويبين لهم أنهم عندما خرجوا ما كانوا يريدون بدرًا، يقول: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 5- 8].


وفي الآيات نوعٌ من الشدة على المسلمين، ونوع من اللوم؛ كيف تفكرون في أمر الدنيا وقد تحقق لكم هذا الانتصار العظيم لأنكم فكرتم في الآخرة، فلا تضيِّعوا النصر.


ونزلت هذه الآيات على المسلمين بردًا وسلامًا، وبمجرد سماعهم لهذه الآيات ثابوا إلى رشدهم، وعادوا إلى ربهم، واجتمعت القلوب من جديد، وقبلوا أمر الله، وهذا فارقٌ ضخم وكبير بين موقعة بدر وموقعة أُحد.


فالمسلمون في بدر لم يخرجوا عن كونهم من البشر، يخطئون كما يخطأ عامة البشر، لكن عندما ذُكِّروا باللهتذكروا؛ أما في غزوة أُحُد -كما سيتبيَّن إن شاء الله- عندما أخطأ المسلمون نفس هذا الخطأ -الغنائم والدنيا- وذُكِّروا لم يتذكَّروا، فكانت المصيبة، وهذا ما سنعرفه بالتفصيل في غزوة أُحُد.


لكن في بدر عندما ذُكِّر المسلمون قبلوا جميعًا بأمر الله، وقسَّم النبيالغنائم على السواء، كما يقول عبادة بن الصامت t، فأعطىأربعة أخماس الغنائم للجيش وتمَّ تقسيمها بالتساوي، واحتفظبالخمس للدولة، وكان لهحق التصرف فيه، وهذا هو التشريع في أمر الغنائم الذي يجب أن يُعمل به إلى يوم القيامة، وفي هذا تفصيلات كثيرة.


وظهر هنا مرض سوف يكبر بعد ذلك في قلوب المؤمنين، وستكون له آثارٌ كبيرة على المؤمنين بعد سنة من هذا التوقيت.


د. راغب السرجاني


--------------------------------------------------------------------------------

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص642.

[2] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 2005م، ص 209.

[3] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/26.


admin
admin
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 13582
التقييم : 2521
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العمر : 57
غزوة بدر 3913
http://masrya.ahlamontada.org

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

السبت 27 نوفمبر 2010, 3:58 pm
أسرى بدر
أسر المسلمون في غزوة بدر سبعين أسيرًا، فماذا سيفعل المسلمون في هؤلاء الأسرى؟ فإلى هذه اللحظة لم يكن هناك تشريعٌ يوضح أمر التعامل مع هؤلاء الأسرى، فكان لا بد أن يتصرف رسول اللهبإحدى طرق التشاور التي اعتادأن يتعامل بها مع الصحابة y؛ فقامبعمل مجلس استشاريّ بأنْ جمع صحابته y، وبدأيسألهم ويستشيرهم في أمر الأسرى.


موقف أبي بكر الصديق
فقال المستشار الأول لرسول الله(أبو بكر الصديق) t: "يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا".


لقد كان يغلب على رأي أبي بكر t جانب الرحمة، فهو يرى أنهم بنو العم والعشيرة، والدولة في حاجة إلى ما سيؤخذ من أموالهم، وربما يؤمنون بعد ذلك، وهذا خير من أن يموتوا على الكفر. وقد كانت اختياراته t قريبة من اختيارات رسول الله؛ نظرًا لتقارب طبيعتي الرسولوأبي بكر t، فكانيغلِّب جانب الرحمة على جانب القوة، كما كانيصفُ الصِّدِّيق ويقول: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ"[1].


موقف عمر بن الخطاب
لما أنهى أبو بكر t كلامه قالللمستشار الثاني: مَا تَرَى يَابْنَ الْخَطَّابِ؟


فقال عمر بن الخطاب t: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكِّنني من فلان -وذكر قريبًا له- فأضرب عنقه، وتمكن عليًّا من عقيل بن أبي طالب -أخيه- فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.


فكان رأيه t شديد الحسم؛ ففي رأيه أن يُقتل السبعون، وعلى أن يقتل كلٌّ قريبه؛ حتى يُظهِر كل مسلم حُبَّه لله، وأنه ليس في قلبه ولاء لأيِّ مشرك مهما كان، حتى وإن كان أقرب الناس إليه. فكان هذا هو رأي عمر بن الخطاب t، يقول النبيفي الحديث: "وَأَشَدُّهَا -أي الأمة- فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ"[2].


فهذان رأيان، وكلاهما مبنيٌّ على الحب الكامل لله تعالى ولأمر الدعوة والدولة الإسلامية، لكن كلاًّ منهما له طريقته، وكلاهما مختلف تمام الاختلاف عن الآخر.


أحدهما يقول: نأخذ الفدية، والآخر يقول: نقتل الأسرى.


يقول عمر بن الخطاب t: "فهوى رسول اللهما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ، وأخذ منهم الفداء". فلما كان من الغد، يقول عمر: "فغدوتُ إلى رسول اللهوأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدتُ بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما".


إنها أحاسيس راقية جدًّا في قلب سيدنا عمر بن الخطاب t.


فقال: "لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهُمُ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ"[3]. وأشارإلى شجرة قريبة، وأنزل اللهقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]، أي: يكثر القتل.


{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67]، أي: أخذ الفدية.


{وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67].


ثم قال: {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]. والعذاب العظيم هو ما تحدَّث عنه النبيلعمر بن الخطاب، أنه كان أدنى من الشجرة. والكتاب الذي سبق هو الآيات التي نزلت قبل ذلك في سورة محمد، قال اللهفي شأن الأسرى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4].


فأمر الفداء أمر مشروع، لكن الأولى هنا كان أن يثخن في الأرض. وكان سعد بن معاذ t يرى مثل رأي عمر بن الخطاب t، وقد قال ذلك مبكرًا عندما بدأ المسلمون يأسرون المشركين، وقبل الاستشارة، وقد نظر النبيلسعد بن معاذ عندما بدأ المسلمون في أسر المشركين، فوجده حزينًا، فقال له: "وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَفْعَلُ الْقَوْمُ"، أي من أسر المسلمين للمشركين. فقال سعد: "أجَلْ، والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحبَّ إليَّ من استبقاء الرجال"[4].


واستقر رأي المسلمين على استبقاء الأسرى وأخذ الفدية منهم، وعندما أوحى اللهبالآيات لم ينكر عليهم هذا الأمر، ومع أن اللهذكر أن الأولى كان الإثخان في الأرض، إلا أنهأقرَّ أخذ الفداء، وبدأ المسلمون في أخذ الفداء؛ فمن كان معه مال كان يدفع منه، وكان ما يُدفع هو ما بين ألف إلى أربعة آلاف درهم للرجل، وكلٌّ بحسب حالته المادية.


رسول الله يفدي عمه العباس
من أروع الأمثلة التي تُذكر في أمر الفداء، ما دار بين رسول اللهوالعباس بن عبد المطلب عم رسول الله، وقد كان أسيرًا في يوم بدر، وكان قد خرج مُستكرَهًا إلى بدر، وقاتل مع المشركين، وأُسِر مع من أُسر، وكان رجلاً غنيًّا، وسوف يدفع فدية ليفتدي نفسه، ودار بينه وبين رسول اللههذا الحوار الرائع، الذي ينقل درجةً من أرقى الدرجات في قيادة الدول، فلا يوجد أيُّ نوع من الوساطة أو المحاباة لأحد من الأقارب أو الأهل أو العشيرة.


قال العباس: "يا رسول الله، قد كنت مسلمًا". أي أنه كان يُخفِي إسلامه، ومن ثَمَّ فلا يدفع الفداء.


فقال رسول الله: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلاَمِكَ، فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا؛ فَافْتَدِ نَفْسَكَ، وَابْنَيْ أَخَوَيْكَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو".


فقال العباس: ما ذاك عندي يا رسول الله.


فقال: "فَأَيْنَ الْمَالَ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ، فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَهَذَا الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتُهُ لِبَنَيَّ: الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ وَقُثَمٍ".


فقال العباس: "والله يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله؛ إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي ما أصبتم مني: عشرين أوقية من مال كان معي".


فقال رسول الله: "ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْكَ". وأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70].


وهذه الآية نزلت في العباس t، وقد قال بعد ذلك: "فأعطانا اللهمكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبدًا، كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله"[5].


هذا الأمر يوضِّح لنا كيف كان رسول اللهيطبِّق القانون على الجميع، حتى على العباس بن عبد المطلب، وكان الصحابة أنفسهم يستعجبون لهذا الأمر، وقد كان في قلوب الأنصار رِقَّة عجيبة، فلما رأوا هذا الأمر أشفقوا على رسول اللهمن أن يأخذ الفداء من عمه، وعمه الذي يحبه، فقد كان العباس واقفًا مع رسول اللهفي بيعة العقبة الثانية، ومعنى ذلك أنه كان قريبًا جدًّا من قلب النبي، وليس كأبي لهب مثلاً؛ فجاء الأنصار إلى الرسولوحاولوا أن يُعفوا العباس من الفدية لكن بطريقة في غاية اللطف والأدب، فقد كانوا y قمة في الأخلاق وفي الإيمان، فقالوا له: "يا رسول الله، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه"[6].


وجَدَّة العباس t من بني النجار من الخزرج، الذين هم من الأنصار، فهم يطلبون y من الرسولأن يُعفِي عمَّه، لا لأنه عمه، لكن لأنه قريب لهم من هذه الناحية. ولكن الرسولرفض ذلك تمامًا، وأصرَّعلى أخذ الفداء، بل أخذ من العباس نفسه أعلى قيمة للفداء، وهي أربعة آلاف درهم للرجل.


موقف آخر مع سهيل بن عمرو
كان سهيل بن عمرو من قادة قريش، وكان أسيرًا في بدر، وهو ممن عرفوا بحسن البيان والخطابة، وكان يحمِّس المشركين على قتال الرسول، وعندما أخذه المسلمون أسيرًا كان من رأي عمر بن الخطاب t أن تُنزع ثَنِيَّة -وهي الأسنان الأمامية- سهيل بن عمرو؛ لئلاّ يقف خطيبًا ضد المسلمين بعد ذلك؛ فقال: "يا رسول الله، دعني أنزع ثَنِيَّتَيْ سهيل بن عمرو، فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا". ورفض رسول اللههذا الأمر، وتظهر نبوءة جديدة لرسول اللهفي هذا الموقف، حين قال: "عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لاَ تَذُمُّهُ"[7].


وقد حدث هذا عندما ارتدت العرب، فقد وقف سهيل t وخطب في الناس وثبَّتهم على الإسلام في مكة المكرمة، وكان مما قال: "إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوةً، فمن رابنا ضَرَبْنا عُنُقَه"[8]؛ فثبت الناس في مكة على الإسلام.


صور أخرى من الفداء
كانت هذه إحدى صور الفداء وهي الفداء بالمال، وكان بعض الأسرى من الفقراء، فرأى النبيأن بعض الأسرى يعرفون القراءة والكتابة، والأمة الإسلامية في ذلك الوقت لم تكن قد تعلمت بعدُ، ومن يقرأ ويكتب إنما هم قليل، فكانيفتدي هؤلاء المشركين بأن يُعلِّم كلٌّ منهم عشرة من غلمان المدينة المنورة. ويوضح هذا الأمر دقة النبيوبُعد نظره وعمق فهمه، فهويريد أن يعلِّم الأمة القراءة والكتابة من أول أمرها، فقد استثمرهذا الحدث العظيم؛ وهو وجود سبعين أسيرًا من المشركين، بعضهم يعرفون القراءة والكتابة في أن يعلِّم الأمة.


وقد منَّ النبيعلى بعض الأسرى بغير فداء، وأطلقهمهكذا دون أن يأخذ منهم شيئًا، ومنهم أبو عزة الجمحي وكان رجلاً فقيرًا، وقال للرسول: "لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليَّ". فمنَّ عليه، لكن أخذ عليه عهدًا ألاَّ يظاهر عليه أحدًا، ولكنه لم يفِ بعهده، ونال جزاءه بعد ذلك.


وقَتَلَ النبيأسيرين هما: عقبة بن أبي مُعَيْط، والنضر بن الحارث؛ لأنهما كانا من أكابر مجرمي قريش، أو ما نسمِّيهم اليوم مجرمي الحرب.


حكم الأسرى في الإسلام
وقد نزل بعد ذلك التشريع الإسلامي في شأن الأسرى، وهو أن الإمام له الخيار في شأن الأسرى بين أربعة أمور:


1- المنّ بغير فداء.


2- الفداء: وقد يكون بمال، أو بتعليم الغير، أو بأسير مثله (تبادل أسرى).


3- القتل لمجرمي الحرب، أو المعاملة بالمثل إذا كان أعداء الأمة يقتلون الأسارى من المسلمين.


4- الاسترقاق وهو الاحتفاظ بالأسير رقيقًا إلى أجلٍ يحدده الإمام، حسب ما يرى من احتياج المسلمين.


فللإمام أن يختار بين هذه الأمور الأربعة، وللحاكم أن يتعاهد مع دولة ما أو مجموعة من الدول في طريقة التعامل مع الأسرى، كأن يتم الاتفاق مع مجموعة من الدول على أنه لا استرقاق خلال العشر سنوات القادمة، أو لا قتل للأسرى خلال فترة محددة، وهكذا ما دام الشرع يسمح بأكثر من طريقة للتعامل مع الأسرى.


منهج الإسلام في التعامل مع الأسرى
لكن هناك شيء في غاية الأهمية؛ وهو أنه إذا تمَّ الاختفاظ بالأسير، فلا بد من إكرامه ولا بد من رعايته رعايةً أخلاقية سامية تليق بدين الإسلام، قال الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].


أي أنه مع حالة الفقر والحاجة الشديدة التي تمرُّ بالمسلمين إلا أنهم مع ذلك (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).


وقد غرس النبيهذا الأمر في صحابته منذ اليوم الأول لوجود أسرى معهم، وقال لهم: "اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا".


وقد بذل الصحابة y كل خير للأُسارى، مع أنهم كانوا منذ أيام قليلة يحاولون قتل المسلمين، مع هذا نَسِي المسلمون ذلك تمامًا، وتذكروا قول الرسول: "اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا".


يقول أبو عزيز بن عمير -وهو ممن أسر في بدر، وهو أخو مصعب بن عمير- يقول: "كنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم، أكلوا التمر وأطعموني البُرَّ لوصية رسول اللهإياهم بنا"[9]. وكان لهذا الأمر الأثر الكبير في نفسية أبي عزيز الذي ما إن أُطلق حتى أعلن إسلامه t.


وكان أبو العاص بن الربيع أيضًا في أسارى بدر، يقول: "كنت في رهط من الأنصار، جزاهم الله خيرًا". وأسلم بعد ذلك t، وكان زوجًا لبنت رسول اللهالسيدة زينب رضي الله عنها، ومع هذا كان أحد الأسرى.


يقول t: "كنت في رهط من الأنصار، جزاهم الله خيرًا، كنا إذا تعشَّينا أو تغدَّينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ"[10].


وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة -وهو أخو خالد بن الوليد t- من أسارى بدر، كان يقول مثل ذلك وأكثر، يقول: "وكانوا يحملوننا ويمشون"[11]. أي إذا رأوا منهم جريحًا أو مريضًا أو متعبًا، حملوه رفقًا به.


وهذا هو منهج الإسلام الذي جعلهم يدخلون في الإسلام؛ فقد أسلم أبو العاص بن الربيع، وأبو عزيز بن عمير، والسائب بن عبيد، والوليد بن الوليد.


د. راغب السرجاني


--------------------------------------------------------------------------------

[1] رواه الترمذي (3790، 3791) ترقيم شاكر، وابن ماجه (154) ترقيم عبد الباقي، وأحمد (12927) طبعة مؤسسة قرطبة. قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (895) في صحيح الجامع.

[2] رواه أحمد (12927)، وصححه شعيب الأرناءوط.

[3] رواه أحمد (208)، وصححه شعيب الأرناءوط. وانظر: المباركفوري: الرحيق المختوم ص210.

[4] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص 628.

[5] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420هـ- 1999م، 4/92.

[6] البخاري: كتاب العتق، باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى إذا كان مشركًا (2400)، ترقيم البغا.

[7] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص649.

[8] السابق نفسه، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص666.

[9] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص645.

[10] الواقدي: المغازي 1/119.

[11] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
CATWOMAN
CATWOMAN
عضو مؤسس
عضو مؤسس
انثى
رقم العضوية : 5
عدد المساهمات : 613
التقييم : 410
تاريخ التسجيل : 08/11/2010
العمر : 41
البلد : الإسكندرية

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

الأحد 28 نوفمبر 2010, 8:02 pm
سلمت يداك

ومجهود رائع لإحياء تاريخنا الإسلامي

تقبل مروري
admin
admin
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 13582
التقييم : 2521
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العمر : 57
غزوة بدر 3913
http://masrya.ahlamontada.org

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

الإثنين 29 نوفمبر 2010, 10:48 am
الله يكرمك يا كات

الف شكر لمرورك و تواصلك الطيب

دمت بخير
روعة الأشياء
روعة الأشياء
مدير الموقع
مدير الموقع
انثى
رقم العضوية : 92
عدد المساهمات : 4721
التقييم : 3033
تاريخ التسجيل : 28/01/2012
غزوة بدر 3913

غزوة بدر 5910

غزوة بدر Aa_110


غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

الأربعاء 29 فبراير 2012, 12:59 am
غزوة بدر 13253392792
admin
admin
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 13582
التقييم : 2521
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العمر : 57
غزوة بدر 3913
http://masrya.ahlamontada.org

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

الأربعاء 29 فبراير 2012, 1:39 pm
ربنا يعزك يا روعة

الف شكر لتواصلك الجميل

ربنا يكرمك

تحياتى و تقديرى
avatar
ليدر
مدير الموقع
مدير الموقع
ذكر
رقم العضوية : 4
عدد المساهمات : 9777
التقييم : 402
تاريخ التسجيل : 07/11/2010
العمر : 57
http://leader-des.com/vb/

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

الخميس 01 مارس 2012, 3:50 pm
بارك الله فيك و جعله فى ميزان حسناتك و نفعنا به

تحياتى و تقديرى ...
avatar
زائر
زائر

غزوة بدر Empty رد: غزوة بدر

الأربعاء 02 مايو 2012, 5:24 pm
طرح متميز و رائع و يثرى المنتدى بدون شك

سلمت لنا و موضوعاتك الهادفة

مودتى
... نبع الوفاء rose
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى