كشف حساب الأزمة
الإثنين 15 أكتوبر 2012, 9:42 pm
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فكما قررنا في موضوع سابق فإن العلاقة بيْن الدعوة وأبنائِها قائمةٌ على مَرجعيَّة الدليل في الأمور الشرعية، وعلى الثقة في المشايخ في الأمور الواقعية، لا سيما تلك التي يحتاج وزنُها إلى تقديراتِ القُوَى المتصارِعة.
ولكن بعد هدوء الأزمة لابد مِن تقديم "كشف حساب" مِن باب التعلم والنصح والمراجعة، وهذا كشف حساب لطريقة إدارة الدعوة للأزمة مِن وجهة نظري.. أعرضه على إخواننا الأفاضل رغبة في اتساع مداركهم الشرعية والواقعية، وفي ثنايا هذا الطرح سوف أجيب على بعض الاعتراضات التي استمعت إليها مِن عدد كبير من إخواننا.
أولاً: ترى الدعوة موقفًا مبدئيًا مِن المظاهرات أنها "مباحة الأصل"؛ إلا أن الغالب عليها مِن حيث التطبيق وجود مفاسد شرعية بدون مصالح، أو مع مصالح محدودة.
ومِن هذه المفاسد:
1- الشعارات الباطلة أو الغامضة.
2- وجود المنكرات، ومنها: التبرج، والغناء.
3- ارتفاع احتمال سفك الدماء والجراح فيها، وكذا الاعتقالات.
4- كما أن المحصلة التي عايشناها مع المظاهرات عبر عشرات السنين قبل الخامس والعشرين من يناير كانت تنتهي دون أن تحقق الحد الأدنى مما قامت لأجله، وأحيانًا بدون صدام ودماء، وأحيانًا مع صدام ودماء.
ومِن أمثلة ذلك:
مظاهرات التنديد بعمليات تزوير الانتخابات وغيرها. "راجع مقالة: وقفة مع المظاهرات".
وهناك بُعد آخر في موقفنا مِن المظاهرات، وهو: أننا نرى واجب الجماعات الإسلامية ككل هو: "حفظ الدين، وسياسة الدنيا بالدين"، ونحن نقوم بواجب حفظ الدين أكثر مِن غيرنا، ونشارك باقي الاتجاهات الإسلامية في التواجد في المجتمع قدر الممكن والمستطاع، بشرط ألا يتعارض مع حفظ الدين؛ لأنه أتم وأشرف، ولانصراف معظم الاتجاهات الإسلامية عن طلب العلم وتعليمه والرد على شبهات المخالفين، وهي الأسلحة الرئيسية لسد ثغرة حفظ الدين.
ومِن ثمَّ فإن أي مشاركة في عمليات سياسية أو مظاهرات تتطلب الإقرار بباطل مرفوضة أصلاً، وكذلك المشاركة التي تتطلب تغيرًا جذريًا في بناء الشخصية السلفية، وتكيفها مع دورها الأساسي في منظومة العمل الإسلامي.
إذن فعند وجود مظاهرات في قضية ما فلا يُتصور مشاركة الدعوة ككيان دعوي، اللهم إلا إذا كانت المعطيات مختلفة تمامًا، ولكن حتى مع عدم المشاركة فإن الموقف مِن المخالِف مِن الممكن أن يكون واحدًا مِن هذه الاحتمالات:
1- نهي الغير عن المشاركة حينما تكون المفسدة راجحة؛ بغض النظر عن المشارِك.
2- السكوت عن المشارِك حينما تكون المصالح والمفاسد متقاربة؛ فلا نحجر على مَن هم أدرى بالمظاهرات رؤيتهم في تقديرها، مع استمرار تغليبنا الدور الذي اخترناه لأنفسنا.
3- الثناء على المشارِك، وهذا في حالة الاقتناع بحصول مصالح مِن ورائها دون مفاسد معتبرة، في الوقت الذي قد تكون مشاركة السلفيين فيها تسبب مفسدة قد يوظفها الخصم.
ثانيًا: كتطبيق على القواعد السابقة فقد رأت الدعوة السلفية الثناء على الوقفات الاحتجاجية المتعلقة بأزمة: "الأخت كاميليا شحاتة"؛ نظرًا لغلبة الظن بعدم حدوث مواجهات في ظل كونها وقفات احتجاجية محددة المكان، ونظرًا لوجود حاجة ماساة آنذاك في إحداث توازن إعلامي مع متطرفي النصارى، ولم يتم التبني التام لها بناء على عدم الرغبة في تغيير صبغة الدعوة وواجبها الأول الذي هو "حفظ الدين".
ومِن ثمَّ فقد كانت الفعاليات الدعوية الرسمية عبارة عن: "مؤتمرات - وندوات - وكتابات"، ونحن نعلم أن مثل هذه الفعاليات لا ترضي عواطف الشباب المتأججة، ولكنها فيها معظم ما في المظاهرات مِن مصالح، ويمكن أن تمثِّل ضغطًا جماهيريًا في الأمور التي تقتضي موازين القوى فيها الاستجابة للضغط الجماهيري، وأما في حالة عدم ذلك؛ فتذهب المظاهرات سدى بينما يبقى البيان والإرشاد قائمًا -بفضل الله-.
ثالثًا: مظاهرات 25 يناير:
كانت الحسابات أن هذه المظاهرات ليس فيها أي جديد يقتضي تأييدها أو حث الإخوة على الخروج فيها؛ لا سيما وأن منظميها مِن شباب الإنترنت غير المهتم برأي القوى التقليدية -بما في ذلك الإسلاميين- في تحركاتهم، لا سيما وأن الإخوان كان لهم موقف سلبي للغاية مِن مظاهرات 6 إبريل حينما امتنعوا مِن المشاركة فيها ولو بصورة فردية، رغم أن المظاهرات مِن وسائل التعبير المعتمدة لدى الإخوان.
ومِن ثمَّ فقد كان الخطاب موجهًا للسلفيين بعدم المشاركة، وهو موقف تقليدي تلقـَّاه "الجميع" بصورة تقليدية.
ومِن الجدير بالذكر أن الإخوان ترددوا فأعلنوا عدم المشاركة، ثم أعلنوا المشاركة الرمزية وهو ما حدث فعليًا على أرض الواقع، ولم يكن خطاب تكتيكي كما يحلو للبعض أن يصوره.
والذي أريد أن أؤكد عليه هنا حتى لا يُعاد تقييم لموقف بناء على معطيات لم تكن موجودة في وقته، فمراعاة التسلسل الزمني للأحداث في غاية الأهمية.
الحاصل: أن تكييف هذه الحركة مِن وجهة نظر منظميها ومن وجهة نظر المراقبين كان أنها حركة احتجاجية مِن ضمن فعاليات احتجاج كانت ستصل إلى ذروتها في آخر الفترة الرئاسية للرئيس السابق حال إصراره على ترشيح ابنه، وربما حال إصراره على إعادة ترشيح نفسه.
وخرجت مظاهرات 25 يناير بطريقة غير متوقعة من أحد وبحجم هائل أظن لم يتصوره مَن نظموها أو دعوا إليها، فضلاً عن النظام؛ فضلاً عن غير هؤلاء، ومعها مطالبات دولية بعدم قمع المظاهرات، وأظهرت الشرطة المصرية محاولة كبيرة لضبط النفس، ولكن أفلتت منها بعض الحوادث، وانتهى اليوم وأعاد الجميع تقييم مواقفه.
فأما المتظاهرون: فقد قرروا إعادة التظاهر يوم الجمعة، ولوحظ حتى هذه اللحظة أن المتظاهرين لم يكن لهم أي مطالب محددة، ولا غاية عندها تنتهي المظاهرة مما يعني أنه يوم احتجاجي على موقف عام.
وأما الإخوان: فقد قرروا المشاركة بصورة أوضح هذه المرة دون أن يتصدروا المشهد، وأما البرادعي فقد قرر العودة والمشاركة بنفسه في المظاهرات.
أما النظام: فقد أعد لها العدة، وجيَّش القوات الخاصة في الميادين العامة، وأظهر "العين الحمراء"، وبإزاء ذلك حرصت الدعوة على إعادة تأكيد خطابها الرامي إلى عدم فتح باب لإراقة الدماء ثمنًا لتغيير نسبي دنيوي، لا يمكن أن يرقى إلى التغيير الذي تنشده الصحوة الإسلامية ككل. "راجع مقال: يا عقلاء الأمة.. أدركوا البلاد قبل فوات الأوان".
وأما بالنسبة للمشاركة فيها مِن قِبَل الدعوة فقد كان الموقف يميل إلى الرفض لاعتبارين:
الأول: "ظهور البرادعي في المشهد": وقد يرى البعض أنه أهون شرًا مِن النظام السابق؛ بينما نرى أن ولاءه "التام" لأمريكا دون وجود رصيد تاريخي بالانتماء لأي مؤسسة قومية عسكرية أو مدنية، ومعلوم دوره في حرب العراق وتصريحاته المستفزة، وتبنيه لكثير مِن الطلبات المتطرفة لأقباط المهجر، وقضية النوبة، والتي يقف فيها معهم ضد نظام الحكم آنذاك.
الثاني: أن تكشير الداخلية عن أنيابها كان واضحًا وسافرًا، واحتمال التعامل القمعي مع المظاهرات، نعم خرجت مطالبات دولية مؤكِّدة بعدم استعمال القمع مع المتظاهرين، ولكن التاريخ القريب يقول: إن هذا النظام استخدم القمع مع أكثر فئات المجتمع حصانة "القضاة"، وأجهض حركتهم الاحتجاجية مِن قبل، ولم تزد التصريحات الدولية عن الشجب المعتاد.
رابعًا: جمعة الغضب 28 يناير:
خرجت المظاهرات كما أعلن نفس "نشطاء الإنترنت" مع تواجد إخواني لا بأس به، ووقعت صِدامات عدة، وحصل ما حذرنا منه مِن سفك الدماء التي تصب الزيت على النار، وفوجئ الجميع بانسحاب قوات الشرطة تزامنًا مع تحركات منظمة وذات قيادة تتحرك بصورة سريعة وتروِّع الناس.. سرعان ما اتجهت إلى أقسام الشرطة، وإلى مقار الحزب الوطني، وإلى بعض المباني الحكومية، وحدثت كثير مِن الاشتباكات بينهم وبين الشرطة، وانتهت الحصيلة بأكثر من 300 قتيل، وآلاف الجرحى في يومٍ واحد لم نرَ مثله.
وانتهى اليوم بإعلان حظر التجول في: "القاهرة، والإسكندرية، والسويس"، وإعلان نزول الجيش الشارع، وقطع رئيس أركان القوات المسلحة زيارته إلى أمريكا، وعودته الفورية إلى مصر، وسيبقى هذا اليوم مِن أغمض أيام التاريخ، وما حصل فيه سيظل لغزًا -ما شاء الله له أن يكون-!
قد يقول قائل: المهم أنه آل إلى نهاية سعيدة.. نقول: لا بأس.
ولكن لابد مِن التحذير هنا مِن أمرين:
الأول: إعادة تقييم المواقف السابقة بناء على أمر نادر لم يكن يمكن التنبأ به مع الأخذ في الاعتبار أن الذي حدث كان انسحابًا، وليس انهيارًا؛ وإلا فإن الشرطة التونسية -والتي كانت تواجه تحركًا شعبيًا شاملاً، وليس نابعًا مِن بعض نشطائه كما الحال في مصر- صمدت شهرًا كاملاً قبل أن تنهار.. هذا مع الأخذ في الاعتبار العدد الرهيب لقوات الشرطة المصرية.
الثاني -وهو أخطر-: بناء رؤى مستقبلية بناء على هذه الفلتات التاريخية.
عمومًا.. يتحدث البعض عن رغبة لدى الشرطة في أن تدفع بالبلطجية لينوبوا عنها في القمع حتى لا تتعرض لحرج مع القوى العالمية.
وتتحدث جريدة الأهرام في عددها الصادر الأحد 14-2-2011 عن خلاف بين الرئيس السابق ووزير داخليته انتهى بتعليمات بنزول الجيش؛ مما أثار غضب وزير الداخلية السابق، والذي قرر إحراق البلاد!
كما يتحدثون عن رغبة الجيش في الوفاء بعقيدته القتالية، واتفاقاته الدولية مِن أنه يحمي الدولة لا النظام السياسي -وإن كان على رأسه رجل عسكري-.
القدر المتاح مِن المعلومات في نهاية يوم الجمعة: أن الجيش في طريقه للنزول؛ لحفظ الأمن وليس للتدخل.
وأن عناصر مخربة تعيث في الأرض فسادًا؛ بينما قرر المتظاهرون الدخول في اعتصام مفتوح في ميدان التحرير.
وظهرت أمريكا بقوة على سطح الأحداث، وتوالت البيانات والتصريحات مِن البيت الأبيض، وتمت اجتماعات في السفارة الأمريكية مع كثير مِن القوى السياسية.
خامسًا: السبت 29 يناير:
وفي ظل هذا الموقف المتأزم، وتعرض أرواح الناس وأموالهم ووسائل عيشهم للخطر، وفي ظل الضبابية الشديدة.. تحولت المسألة مِن حركة شبابية محدودة تمثل جزءًا مِن حركات احتجاج متصاعدة تجاه الفساد الإداري في الدولة والتوريث إلى أزمة مجتمع، بل إلى ثورة حقيقية.
وصار هناك عدة مشاهد رئيسية:
الأول: في ميدان التحرير، والمظاهرات الأخرى في باقي المحافظات، والتي بدأ الإخوان في تصدر المشهد التنظيمي لها مع التأكيد على الحفاظ على وجهها الشعبي، وعدم رفع أي شعار إسلامي؛ حتى "شعار الاسلام هو الحل" كان ممنوعًا! ومَن رفعه عومل غاية الشدة مِن رفاقه قبل غيرهم!
وزاد الأمر سوءًا برفع شعارات تمثل انحرافات عقدية: كـ"الهلال مع الصليب"، وغيرها..
الثاني: في النظام الذي أدرك متأخرًا جدًا أن هناك شيء ما يجري على أرض مصر يستحق الالتفات!
الثالث: مشهد عامة الناس الذين عانوا مما ذكرنا مِن معاناة.
وفي هذا السياق تحركت الدعوة في محاور:
الأول: استمرار توجيهها ككيان دعوي لأفرادها بعدم الحضور؛ لأن المتظاهرين لا يريدون هوية إسلامية، والسلفيون يحافظون على الهدي الظاهر، ومِن ثمَّ فهويتهم مميزة، ولا شك أن ظهور السمت السلفي الظاهر حتى يغلب على المظاهرات كان يمكن أن يؤدي إلى "هلع عالمي" ربما أدى إلى فقد الضغط العالمي نحو عدم استعمال القوة؛ فكان غياب السلفيين بهديهم الظاهر يصب في حماية المظاهرات في الحقيقة لا في إجهاضها.
كما أن السلفيين لا يمكن أن يصبروا على هتافات مِن نوعية: "يحيا الهلال مع الصليب"، ومنكرات الاختلاط المحرم وغيره... بالإضافة إلى وجود ساحة هامة مِن ساحات العمل، وهو حفظ الأمن الداخلي.
الثاني: عدم التعرض للمتظاهرين بالنهي، ولا بالتأييد شعورًا بعدم جدوى النهي أو التأييد في هذه المرحلة، فكل قد حدد موقفه.
الثالث: التصدي لمحاولة حفظ الأمن الداخلي مِن الحراسة إلى توفير السلع الغير متوفرة، وتوفير الوقود وخلافه. "راجع بياني الدعوة رقم: (1) و(2)".
وهنا لابد مِن التوقف عند نقطة هامة:
فقد شارك كثير مِن غير الإخوة، بل ممن لهم سابقة فساد في هذا الأمر، ولكن كان التوجيه والضبط في الأعم الأغلب للإخوة -بفضل الله-، بل إن كثيرًا مِن الأشقياء كان إذا وجد نفسه منفردًا في الشارع أرهب المارة، وفرض الإتاوات؛ فكان وجود الإخوة ضروريًا جدًا.
سادسًا: مرحلة الثورة:
وعلى أي بدأ النظام في الاستجابة البطيئة جدًا للحدث؛ بدأت بإعلان إقالة الوزارة، ثم تعيين نائب، والتعهد بعدم الترشح لفترة قادمة، ثم التعهد بعدم ترشح ابنه بعده.
ورغم أن هذه التنازلات لم تكن ترد في أذهان المتظاهرين -ولو على سبيل الحلم-؛ إلا أنها لم تُرض طموحهم.. وهنا ظهر "مصطلح الثورة" متزامنًا مع شعار: "الشعب يريد إسقاط النظام".
وبدأت بعض الرموز السلفية في أكثر مِن مكان تحض أتباعها على المشاركة في هذه الثورة أملاً في تقليل الشر والفساد.
وقد تفاعلت الدعوة مع هذا التطور.. فكان:
1- اعتبار تأمين الجبهة الداخلية جزءًا مِن هذه الثورة فات الثوار فعله؛ لأنهم لم يخططوا ولم يدبروا.
وعدم وجود هذا الدور كان كفيلاً بإجهاض الثورة، وتحولها إلى حرب أهلية بين الطبقات الفقيرة التي ملت وأصبحت تُصرِّح بأن حياتها في ظل نظام ظالم أولى مِن الموت جوعًا أو هلعًا.
ونتيجة شعور الدعوة بهذا النبض ألمحت في أكثر مِن مناسبة إلى أن الخروج مِن الأزمة بسرعة أمر هام، وإن لم تتحقق كل طلبات الثوار والتي بدت وكأن بعض الفضائيات والتصريحات الدولية هي منبعها؛ مما كان يُخشى معه أن تكون هناك محاولات لدفع البلاد إلى الفوضى العارمة.
2- الثناء على مَن خرج بنية التغيير إلى الأفضل، وعد قتلاهم -مِن أهل الإيمان- مِن الشهداء -بإذن الله-. "راجع بيان الدعوة رقم: (3)"، و"بيان من الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات بشأن الأحداث" رقم (1) و الذي وقَّع عليه رموز "الدعوة السلفية" بالإسكندرية.
3- تقديم مطالب شرعية عبر المقالات والمؤتمرات.
4- تجييش الأمة لمنع العالمانيين مِن قطف ثمرة هذه الثورة؛ لا سيما مسألة: "إلغاء المادة الثانية مِن الدستور، أو تعديلها".
ومِن الواضح أن هذه الأهداف تتعارض مع الاشتراك الفعلي في المظاهرات؛ بالإضافة إلى الموانع الأخرى، وإن كانت هذه الأهداف خدمت الخروج مِن هذه الثورة بأقل خسائر وأكبر مكاسب. راجع: "توصيات المؤتمر السلفي بالإسكندرية".
وبعد الأحداث:
رأت الدعوة أنه إن كان مِن مصلحة فسوف يستفيد منها الجميع، وإن كان مِن مفسدة؛ فلابد وأن يواجهها الجميع.
وقد شرعت الدعوة -بحمد الله- في مواجهة مَن يحاولون إحداث تقهقر في النظام التشريعي القائم؛ بـ"حذف المادة الثانية مِن الدستور أو تعديلها".
وهي الحملة التي أحدثت صدى كبيرًا، وأوجدت وعيًا لدى جمهور الأمة بهذه القضية، ولم تقتصر الحملة على التصدي لمنع تعديلها؛ وإنما تناولت نظام الحكم في الإسلام، وطالبت بتطبيقه، كما تناولت تفعيل هذه المادة لتكون حاكمة على كل القوانين، وليس فقط القوانين التي استجدت بعد تعديل هذه المادة لعام 1980م.
هذا وقد انتقد بعض الدعاة الأفاضل وبعض مرتادي المنتديات الإسلامية هذه الحملة، وتركزت اعتراضاتهم في الآتي:
1- أن هذا الدستور غير شرعي جملة وتفصيلاً، فوجود هذه المادة وعدمها سيان.
2- أنها معطلة، فما فائدة الدفاع عنها.
3- أنه لم يتكلم أحد على إلغائها أصلاً، فلم إثارة البلبلة.
4- أننا الآن في مأمن من تعديلها بعد تشكيل اللجنة، وما ضمته من رموز مدافعة عنها.
5- أن التعديل لابد وأن يعرض في استفتاء، فإذا عرض تكلمنا حيئذ.
ومع كامل احترامنا للشيوخ الأجلاء الذين يتبنون هذا الرأي، وللإخوة الأفاضل المتفاعلين معه في المنتديات فإننا نوجز ما نراه بشأن هذه الاعتراضات، وقبل هذا نؤكد أن تصدي الشيخ نصر فريد واصل وغيره من علماء الأزهر بجانب الدكتور "محمد يسري" وغيره من رموز السلفية، ثم انضمام شيخ الأزهر الحالي يحتم على مَن يرى أن لا خطر أن يعيد حساباته، وإلا فما نظن أن الأزهر كمؤسسة رسمية يمكن أن تخاطر بالدخول في الحلبة لولا ما لمسته من تحرش حقيقي بمحاولة صياغة دستور عالماني قح، وليس فقط تعديل أو الغاء هذه المادة.
وأما المسألة الأولى فإني لأعجب ممن خرج في الثورة من باب إسقاط شخص مع بقاء نظام الحكم، بل مع احتمال تطور نظام الحكم إلى مزيد من العلمنة، ثم لا يرضى إلا بدستور إسلامي كامل وإلا فلا!
ومع ذلك فنحن حينما تحركنا والثورة ما زالت إما أن تزيل الرئيس وإما ان تُباد -لا بعد أن فاتنا قطار الثورة كما قال البعض- تحركنا لأننا رأينا العالمانيين قد شحذوا المدي من أجل هذه المادة، فتحركنا رافعين شعار عدم اللوم والعتاب والمسئولية الجماعية، فنرجو أن تكون هذه هي الروح الحاكمة للجميع.
ومن رجع إلى تصريحاتنا في ظل التسلط الأمني وقبل هذه الثورة يجد أننا صرحنا أكثر من مرة أن المادة الثانية من الدستور لها أهمية قصوى في منع المزيد من التدهور التشريعي، ووجودها له أهمية كبرى في طبيعة علاقة الإسلاميين بالدولة.
ونحن لا نجامل ولا نسمي الباطل حقًّا، ولكن نصف كل شيء بما يستحقه، ونقول أن دولة بنص دستورها على مرجعية الشريعة حتى لو لم يطبق أهون شرًّا بكثير مما تريده بنا الثلة العالمانية، ولكل مسألة حكمها.
وأما مسألة كونها معطلة فغير صحيح؛ بل بحسب تفسير المحكمة الدستورية العليا تسري على القوانين التي سنت بعدها، لا التي سنت قبلها، ونحن نطالب بتفعيلها على ما مضى من قوانين، وهذا لا يتأتى إلا بتثبيتها بطبيعة الحال.
وقد وقفت هذه المادة -بفضل الله تعالى- حائط صد أمام توصيات مؤتمرات السكان في وقت كانت الحركة الاسلامية فيه مشلولة بالقبضة الأمنية الحديدية.
وأما من يظن أنه لم يتكلم أحد على إلغائها فربما لم يصل إلى علم القائل بهذا أن المنادين بها ليسوا أقباط المهجر فحسب؛ بل وأيمن نور الذي صرح بأنه يريد العودة إلى دستور 23، والبرادعي، ومجموعات ممن يسمون أنفسهم مثقفين تملأ دعواتهم السهل والوادي، واستفزت شيوخ أزهريين كما أسلفنا.
وأما أننا في مأمن الآن بعد تشكيل اللجنة فكلام صحيح إلى حد كبير، ولكن لابد من الانتباه إلى عدة أمور:
1- أن حملتنا بدأت قبل تشكيل هذه اللجنة، ولا أريد أن اقول أنها ساهمت -بفضل الله- بخروجها بهذا الشكل.
2- أن هذه اللجنة تحتاج إلى زخم شعبي حتى لا تتهم أنها راعت أيدولوجيات أعضائها وليست الإرادة العامة للشعب.
3- أن المستشار طارق البشري يقود هو الآخر حملة إعلانية فردية للدفاع عن أهمية المادة الثانية، وهذا ما يؤكد الحاجة الماسة لذلك.
4- أن المتربصين بهذه المادة يطرحون عمل دستور جديد بعد انتهاء الفترة الانتقالية.
وأما كون أن المادة سوف تطرح في استفتاء عام فهذا يؤكد أهمية التحرك المبكر، لا سيما وهو متاح.
بالإضافة إلى أن هناك أمرًا في غاية الخطورة؛ وهو ما نقلته "رويترز" عن من أسمتهم بمجموعة من المثقفين المصريين الذين يقترحون عمل دستور جديد عن طريق جميعة تأسيسية مختارة، وليس عن طريق استفتاء شعبي، مما يعني أهمية وجود حركة استباقية مبكرة.
وفي النهاية: هذه المؤتمرات وإن جعلت الحد الأدنى لمطالبها هو عدم المساس بالشريعة الاسلامية؛ فإن تفاصيل القضايا التي تقال فيها أشمل من ذلك بكثير -بفضل الله تعالى-، ففيها تُشرح قضية "إن الحكم إلا لله"، وتُبين محاسن الشريعة، ويُبين عور العالمانية.
وفي النهاية: طالَبَنا المؤيدون للتظاهر أن نكف عن النهي عنها طالما أننا لا نرى المشاركة، وقد استجبنا لذلك وزيادة، فهل نأمل من إخواننا الأفاضل الذين يرون هذه المؤتمرات والندوات -التى تشرح قضية "إن الحكم إلا لله"، وتبين محاسن الشريعة، وتبين عور العالمانية، وتجعل الحد الأدنى لمطالب الجمهور هو عدم التقهقر للخلف- أنها إضاعة للوقت والجهد، و لكنها في النهاية لا يتوقع منها مفسدة، فهل من الممكن أن تتسع الصدور لذلك حفاظًا على روح الأخوة الإيمانية؟
وأما شكل المرحلة القادمة؛ فالدعوة تتابع المستجدات أولاً بأول، وتدرس الواقع، ويسرها أن تستفيد بآراء ونصائح وتوجيهات أبنائها، بل وعموم المسلمين عبر البريد الخاص بموقعي: "صوت السلف"، و"أنا السلفي".
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فكما قررنا في موضوع سابق فإن العلاقة بيْن الدعوة وأبنائِها قائمةٌ على مَرجعيَّة الدليل في الأمور الشرعية، وعلى الثقة في المشايخ في الأمور الواقعية، لا سيما تلك التي يحتاج وزنُها إلى تقديراتِ القُوَى المتصارِعة.
ولكن بعد هدوء الأزمة لابد مِن تقديم "كشف حساب" مِن باب التعلم والنصح والمراجعة، وهذا كشف حساب لطريقة إدارة الدعوة للأزمة مِن وجهة نظري.. أعرضه على إخواننا الأفاضل رغبة في اتساع مداركهم الشرعية والواقعية، وفي ثنايا هذا الطرح سوف أجيب على بعض الاعتراضات التي استمعت إليها مِن عدد كبير من إخواننا.
أولاً: ترى الدعوة موقفًا مبدئيًا مِن المظاهرات أنها "مباحة الأصل"؛ إلا أن الغالب عليها مِن حيث التطبيق وجود مفاسد شرعية بدون مصالح، أو مع مصالح محدودة.
ومِن هذه المفاسد:
1- الشعارات الباطلة أو الغامضة.
2- وجود المنكرات، ومنها: التبرج، والغناء.
3- ارتفاع احتمال سفك الدماء والجراح فيها، وكذا الاعتقالات.
4- كما أن المحصلة التي عايشناها مع المظاهرات عبر عشرات السنين قبل الخامس والعشرين من يناير كانت تنتهي دون أن تحقق الحد الأدنى مما قامت لأجله، وأحيانًا بدون صدام ودماء، وأحيانًا مع صدام ودماء.
ومِن أمثلة ذلك:
مظاهرات التنديد بعمليات تزوير الانتخابات وغيرها. "راجع مقالة: وقفة مع المظاهرات".
وهناك بُعد آخر في موقفنا مِن المظاهرات، وهو: أننا نرى واجب الجماعات الإسلامية ككل هو: "حفظ الدين، وسياسة الدنيا بالدين"، ونحن نقوم بواجب حفظ الدين أكثر مِن غيرنا، ونشارك باقي الاتجاهات الإسلامية في التواجد في المجتمع قدر الممكن والمستطاع، بشرط ألا يتعارض مع حفظ الدين؛ لأنه أتم وأشرف، ولانصراف معظم الاتجاهات الإسلامية عن طلب العلم وتعليمه والرد على شبهات المخالفين، وهي الأسلحة الرئيسية لسد ثغرة حفظ الدين.
ومِن ثمَّ فإن أي مشاركة في عمليات سياسية أو مظاهرات تتطلب الإقرار بباطل مرفوضة أصلاً، وكذلك المشاركة التي تتطلب تغيرًا جذريًا في بناء الشخصية السلفية، وتكيفها مع دورها الأساسي في منظومة العمل الإسلامي.
إذن فعند وجود مظاهرات في قضية ما فلا يُتصور مشاركة الدعوة ككيان دعوي، اللهم إلا إذا كانت المعطيات مختلفة تمامًا، ولكن حتى مع عدم المشاركة فإن الموقف مِن المخالِف مِن الممكن أن يكون واحدًا مِن هذه الاحتمالات:
1- نهي الغير عن المشاركة حينما تكون المفسدة راجحة؛ بغض النظر عن المشارِك.
2- السكوت عن المشارِك حينما تكون المصالح والمفاسد متقاربة؛ فلا نحجر على مَن هم أدرى بالمظاهرات رؤيتهم في تقديرها، مع استمرار تغليبنا الدور الذي اخترناه لأنفسنا.
3- الثناء على المشارِك، وهذا في حالة الاقتناع بحصول مصالح مِن ورائها دون مفاسد معتبرة، في الوقت الذي قد تكون مشاركة السلفيين فيها تسبب مفسدة قد يوظفها الخصم.
ثانيًا: كتطبيق على القواعد السابقة فقد رأت الدعوة السلفية الثناء على الوقفات الاحتجاجية المتعلقة بأزمة: "الأخت كاميليا شحاتة"؛ نظرًا لغلبة الظن بعدم حدوث مواجهات في ظل كونها وقفات احتجاجية محددة المكان، ونظرًا لوجود حاجة ماساة آنذاك في إحداث توازن إعلامي مع متطرفي النصارى، ولم يتم التبني التام لها بناء على عدم الرغبة في تغيير صبغة الدعوة وواجبها الأول الذي هو "حفظ الدين".
ومِن ثمَّ فقد كانت الفعاليات الدعوية الرسمية عبارة عن: "مؤتمرات - وندوات - وكتابات"، ونحن نعلم أن مثل هذه الفعاليات لا ترضي عواطف الشباب المتأججة، ولكنها فيها معظم ما في المظاهرات مِن مصالح، ويمكن أن تمثِّل ضغطًا جماهيريًا في الأمور التي تقتضي موازين القوى فيها الاستجابة للضغط الجماهيري، وأما في حالة عدم ذلك؛ فتذهب المظاهرات سدى بينما يبقى البيان والإرشاد قائمًا -بفضل الله-.
ثالثًا: مظاهرات 25 يناير:
كانت الحسابات أن هذه المظاهرات ليس فيها أي جديد يقتضي تأييدها أو حث الإخوة على الخروج فيها؛ لا سيما وأن منظميها مِن شباب الإنترنت غير المهتم برأي القوى التقليدية -بما في ذلك الإسلاميين- في تحركاتهم، لا سيما وأن الإخوان كان لهم موقف سلبي للغاية مِن مظاهرات 6 إبريل حينما امتنعوا مِن المشاركة فيها ولو بصورة فردية، رغم أن المظاهرات مِن وسائل التعبير المعتمدة لدى الإخوان.
ومِن ثمَّ فقد كان الخطاب موجهًا للسلفيين بعدم المشاركة، وهو موقف تقليدي تلقـَّاه "الجميع" بصورة تقليدية.
ومِن الجدير بالذكر أن الإخوان ترددوا فأعلنوا عدم المشاركة، ثم أعلنوا المشاركة الرمزية وهو ما حدث فعليًا على أرض الواقع، ولم يكن خطاب تكتيكي كما يحلو للبعض أن يصوره.
والذي أريد أن أؤكد عليه هنا حتى لا يُعاد تقييم لموقف بناء على معطيات لم تكن موجودة في وقته، فمراعاة التسلسل الزمني للأحداث في غاية الأهمية.
الحاصل: أن تكييف هذه الحركة مِن وجهة نظر منظميها ومن وجهة نظر المراقبين كان أنها حركة احتجاجية مِن ضمن فعاليات احتجاج كانت ستصل إلى ذروتها في آخر الفترة الرئاسية للرئيس السابق حال إصراره على ترشيح ابنه، وربما حال إصراره على إعادة ترشيح نفسه.
وخرجت مظاهرات 25 يناير بطريقة غير متوقعة من أحد وبحجم هائل أظن لم يتصوره مَن نظموها أو دعوا إليها، فضلاً عن النظام؛ فضلاً عن غير هؤلاء، ومعها مطالبات دولية بعدم قمع المظاهرات، وأظهرت الشرطة المصرية محاولة كبيرة لضبط النفس، ولكن أفلتت منها بعض الحوادث، وانتهى اليوم وأعاد الجميع تقييم مواقفه.
فأما المتظاهرون: فقد قرروا إعادة التظاهر يوم الجمعة، ولوحظ حتى هذه اللحظة أن المتظاهرين لم يكن لهم أي مطالب محددة، ولا غاية عندها تنتهي المظاهرة مما يعني أنه يوم احتجاجي على موقف عام.
وأما الإخوان: فقد قرروا المشاركة بصورة أوضح هذه المرة دون أن يتصدروا المشهد، وأما البرادعي فقد قرر العودة والمشاركة بنفسه في المظاهرات.
أما النظام: فقد أعد لها العدة، وجيَّش القوات الخاصة في الميادين العامة، وأظهر "العين الحمراء"، وبإزاء ذلك حرصت الدعوة على إعادة تأكيد خطابها الرامي إلى عدم فتح باب لإراقة الدماء ثمنًا لتغيير نسبي دنيوي، لا يمكن أن يرقى إلى التغيير الذي تنشده الصحوة الإسلامية ككل. "راجع مقال: يا عقلاء الأمة.. أدركوا البلاد قبل فوات الأوان".
وأما بالنسبة للمشاركة فيها مِن قِبَل الدعوة فقد كان الموقف يميل إلى الرفض لاعتبارين:
الأول: "ظهور البرادعي في المشهد": وقد يرى البعض أنه أهون شرًا مِن النظام السابق؛ بينما نرى أن ولاءه "التام" لأمريكا دون وجود رصيد تاريخي بالانتماء لأي مؤسسة قومية عسكرية أو مدنية، ومعلوم دوره في حرب العراق وتصريحاته المستفزة، وتبنيه لكثير مِن الطلبات المتطرفة لأقباط المهجر، وقضية النوبة، والتي يقف فيها معهم ضد نظام الحكم آنذاك.
الثاني: أن تكشير الداخلية عن أنيابها كان واضحًا وسافرًا، واحتمال التعامل القمعي مع المظاهرات، نعم خرجت مطالبات دولية مؤكِّدة بعدم استعمال القمع مع المتظاهرين، ولكن التاريخ القريب يقول: إن هذا النظام استخدم القمع مع أكثر فئات المجتمع حصانة "القضاة"، وأجهض حركتهم الاحتجاجية مِن قبل، ولم تزد التصريحات الدولية عن الشجب المعتاد.
رابعًا: جمعة الغضب 28 يناير:
خرجت المظاهرات كما أعلن نفس "نشطاء الإنترنت" مع تواجد إخواني لا بأس به، ووقعت صِدامات عدة، وحصل ما حذرنا منه مِن سفك الدماء التي تصب الزيت على النار، وفوجئ الجميع بانسحاب قوات الشرطة تزامنًا مع تحركات منظمة وذات قيادة تتحرك بصورة سريعة وتروِّع الناس.. سرعان ما اتجهت إلى أقسام الشرطة، وإلى مقار الحزب الوطني، وإلى بعض المباني الحكومية، وحدثت كثير مِن الاشتباكات بينهم وبين الشرطة، وانتهت الحصيلة بأكثر من 300 قتيل، وآلاف الجرحى في يومٍ واحد لم نرَ مثله.
وانتهى اليوم بإعلان حظر التجول في: "القاهرة، والإسكندرية، والسويس"، وإعلان نزول الجيش الشارع، وقطع رئيس أركان القوات المسلحة زيارته إلى أمريكا، وعودته الفورية إلى مصر، وسيبقى هذا اليوم مِن أغمض أيام التاريخ، وما حصل فيه سيظل لغزًا -ما شاء الله له أن يكون-!
قد يقول قائل: المهم أنه آل إلى نهاية سعيدة.. نقول: لا بأس.
ولكن لابد مِن التحذير هنا مِن أمرين:
الأول: إعادة تقييم المواقف السابقة بناء على أمر نادر لم يكن يمكن التنبأ به مع الأخذ في الاعتبار أن الذي حدث كان انسحابًا، وليس انهيارًا؛ وإلا فإن الشرطة التونسية -والتي كانت تواجه تحركًا شعبيًا شاملاً، وليس نابعًا مِن بعض نشطائه كما الحال في مصر- صمدت شهرًا كاملاً قبل أن تنهار.. هذا مع الأخذ في الاعتبار العدد الرهيب لقوات الشرطة المصرية.
الثاني -وهو أخطر-: بناء رؤى مستقبلية بناء على هذه الفلتات التاريخية.
عمومًا.. يتحدث البعض عن رغبة لدى الشرطة في أن تدفع بالبلطجية لينوبوا عنها في القمع حتى لا تتعرض لحرج مع القوى العالمية.
وتتحدث جريدة الأهرام في عددها الصادر الأحد 14-2-2011 عن خلاف بين الرئيس السابق ووزير داخليته انتهى بتعليمات بنزول الجيش؛ مما أثار غضب وزير الداخلية السابق، والذي قرر إحراق البلاد!
كما يتحدثون عن رغبة الجيش في الوفاء بعقيدته القتالية، واتفاقاته الدولية مِن أنه يحمي الدولة لا النظام السياسي -وإن كان على رأسه رجل عسكري-.
القدر المتاح مِن المعلومات في نهاية يوم الجمعة: أن الجيش في طريقه للنزول؛ لحفظ الأمن وليس للتدخل.
وأن عناصر مخربة تعيث في الأرض فسادًا؛ بينما قرر المتظاهرون الدخول في اعتصام مفتوح في ميدان التحرير.
وظهرت أمريكا بقوة على سطح الأحداث، وتوالت البيانات والتصريحات مِن البيت الأبيض، وتمت اجتماعات في السفارة الأمريكية مع كثير مِن القوى السياسية.
خامسًا: السبت 29 يناير:
وفي ظل هذا الموقف المتأزم، وتعرض أرواح الناس وأموالهم ووسائل عيشهم للخطر، وفي ظل الضبابية الشديدة.. تحولت المسألة مِن حركة شبابية محدودة تمثل جزءًا مِن حركات احتجاج متصاعدة تجاه الفساد الإداري في الدولة والتوريث إلى أزمة مجتمع، بل إلى ثورة حقيقية.
وصار هناك عدة مشاهد رئيسية:
الأول: في ميدان التحرير، والمظاهرات الأخرى في باقي المحافظات، والتي بدأ الإخوان في تصدر المشهد التنظيمي لها مع التأكيد على الحفاظ على وجهها الشعبي، وعدم رفع أي شعار إسلامي؛ حتى "شعار الاسلام هو الحل" كان ممنوعًا! ومَن رفعه عومل غاية الشدة مِن رفاقه قبل غيرهم!
وزاد الأمر سوءًا برفع شعارات تمثل انحرافات عقدية: كـ"الهلال مع الصليب"، وغيرها..
الثاني: في النظام الذي أدرك متأخرًا جدًا أن هناك شيء ما يجري على أرض مصر يستحق الالتفات!
الثالث: مشهد عامة الناس الذين عانوا مما ذكرنا مِن معاناة.
وفي هذا السياق تحركت الدعوة في محاور:
الأول: استمرار توجيهها ككيان دعوي لأفرادها بعدم الحضور؛ لأن المتظاهرين لا يريدون هوية إسلامية، والسلفيون يحافظون على الهدي الظاهر، ومِن ثمَّ فهويتهم مميزة، ولا شك أن ظهور السمت السلفي الظاهر حتى يغلب على المظاهرات كان يمكن أن يؤدي إلى "هلع عالمي" ربما أدى إلى فقد الضغط العالمي نحو عدم استعمال القوة؛ فكان غياب السلفيين بهديهم الظاهر يصب في حماية المظاهرات في الحقيقة لا في إجهاضها.
كما أن السلفيين لا يمكن أن يصبروا على هتافات مِن نوعية: "يحيا الهلال مع الصليب"، ومنكرات الاختلاط المحرم وغيره... بالإضافة إلى وجود ساحة هامة مِن ساحات العمل، وهو حفظ الأمن الداخلي.
الثاني: عدم التعرض للمتظاهرين بالنهي، ولا بالتأييد شعورًا بعدم جدوى النهي أو التأييد في هذه المرحلة، فكل قد حدد موقفه.
الثالث: التصدي لمحاولة حفظ الأمن الداخلي مِن الحراسة إلى توفير السلع الغير متوفرة، وتوفير الوقود وخلافه. "راجع بياني الدعوة رقم: (1) و(2)".
وهنا لابد مِن التوقف عند نقطة هامة:
فقد شارك كثير مِن غير الإخوة، بل ممن لهم سابقة فساد في هذا الأمر، ولكن كان التوجيه والضبط في الأعم الأغلب للإخوة -بفضل الله-، بل إن كثيرًا مِن الأشقياء كان إذا وجد نفسه منفردًا في الشارع أرهب المارة، وفرض الإتاوات؛ فكان وجود الإخوة ضروريًا جدًا.
سادسًا: مرحلة الثورة:
وعلى أي بدأ النظام في الاستجابة البطيئة جدًا للحدث؛ بدأت بإعلان إقالة الوزارة، ثم تعيين نائب، والتعهد بعدم الترشح لفترة قادمة، ثم التعهد بعدم ترشح ابنه بعده.
ورغم أن هذه التنازلات لم تكن ترد في أذهان المتظاهرين -ولو على سبيل الحلم-؛ إلا أنها لم تُرض طموحهم.. وهنا ظهر "مصطلح الثورة" متزامنًا مع شعار: "الشعب يريد إسقاط النظام".
وبدأت بعض الرموز السلفية في أكثر مِن مكان تحض أتباعها على المشاركة في هذه الثورة أملاً في تقليل الشر والفساد.
وقد تفاعلت الدعوة مع هذا التطور.. فكان:
1- اعتبار تأمين الجبهة الداخلية جزءًا مِن هذه الثورة فات الثوار فعله؛ لأنهم لم يخططوا ولم يدبروا.
وعدم وجود هذا الدور كان كفيلاً بإجهاض الثورة، وتحولها إلى حرب أهلية بين الطبقات الفقيرة التي ملت وأصبحت تُصرِّح بأن حياتها في ظل نظام ظالم أولى مِن الموت جوعًا أو هلعًا.
ونتيجة شعور الدعوة بهذا النبض ألمحت في أكثر مِن مناسبة إلى أن الخروج مِن الأزمة بسرعة أمر هام، وإن لم تتحقق كل طلبات الثوار والتي بدت وكأن بعض الفضائيات والتصريحات الدولية هي منبعها؛ مما كان يُخشى معه أن تكون هناك محاولات لدفع البلاد إلى الفوضى العارمة.
2- الثناء على مَن خرج بنية التغيير إلى الأفضل، وعد قتلاهم -مِن أهل الإيمان- مِن الشهداء -بإذن الله-. "راجع بيان الدعوة رقم: (3)"، و"بيان من الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات بشأن الأحداث" رقم (1) و الذي وقَّع عليه رموز "الدعوة السلفية" بالإسكندرية.
3- تقديم مطالب شرعية عبر المقالات والمؤتمرات.
4- تجييش الأمة لمنع العالمانيين مِن قطف ثمرة هذه الثورة؛ لا سيما مسألة: "إلغاء المادة الثانية مِن الدستور، أو تعديلها".
ومِن الواضح أن هذه الأهداف تتعارض مع الاشتراك الفعلي في المظاهرات؛ بالإضافة إلى الموانع الأخرى، وإن كانت هذه الأهداف خدمت الخروج مِن هذه الثورة بأقل خسائر وأكبر مكاسب. راجع: "توصيات المؤتمر السلفي بالإسكندرية".
وبعد الأحداث:
رأت الدعوة أنه إن كان مِن مصلحة فسوف يستفيد منها الجميع، وإن كان مِن مفسدة؛ فلابد وأن يواجهها الجميع.
وقد شرعت الدعوة -بحمد الله- في مواجهة مَن يحاولون إحداث تقهقر في النظام التشريعي القائم؛ بـ"حذف المادة الثانية مِن الدستور أو تعديلها".
وهي الحملة التي أحدثت صدى كبيرًا، وأوجدت وعيًا لدى جمهور الأمة بهذه القضية، ولم تقتصر الحملة على التصدي لمنع تعديلها؛ وإنما تناولت نظام الحكم في الإسلام، وطالبت بتطبيقه، كما تناولت تفعيل هذه المادة لتكون حاكمة على كل القوانين، وليس فقط القوانين التي استجدت بعد تعديل هذه المادة لعام 1980م.
هذا وقد انتقد بعض الدعاة الأفاضل وبعض مرتادي المنتديات الإسلامية هذه الحملة، وتركزت اعتراضاتهم في الآتي:
1- أن هذا الدستور غير شرعي جملة وتفصيلاً، فوجود هذه المادة وعدمها سيان.
2- أنها معطلة، فما فائدة الدفاع عنها.
3- أنه لم يتكلم أحد على إلغائها أصلاً، فلم إثارة البلبلة.
4- أننا الآن في مأمن من تعديلها بعد تشكيل اللجنة، وما ضمته من رموز مدافعة عنها.
5- أن التعديل لابد وأن يعرض في استفتاء، فإذا عرض تكلمنا حيئذ.
ومع كامل احترامنا للشيوخ الأجلاء الذين يتبنون هذا الرأي، وللإخوة الأفاضل المتفاعلين معه في المنتديات فإننا نوجز ما نراه بشأن هذه الاعتراضات، وقبل هذا نؤكد أن تصدي الشيخ نصر فريد واصل وغيره من علماء الأزهر بجانب الدكتور "محمد يسري" وغيره من رموز السلفية، ثم انضمام شيخ الأزهر الحالي يحتم على مَن يرى أن لا خطر أن يعيد حساباته، وإلا فما نظن أن الأزهر كمؤسسة رسمية يمكن أن تخاطر بالدخول في الحلبة لولا ما لمسته من تحرش حقيقي بمحاولة صياغة دستور عالماني قح، وليس فقط تعديل أو الغاء هذه المادة.
وأما المسألة الأولى فإني لأعجب ممن خرج في الثورة من باب إسقاط شخص مع بقاء نظام الحكم، بل مع احتمال تطور نظام الحكم إلى مزيد من العلمنة، ثم لا يرضى إلا بدستور إسلامي كامل وإلا فلا!
ومع ذلك فنحن حينما تحركنا والثورة ما زالت إما أن تزيل الرئيس وإما ان تُباد -لا بعد أن فاتنا قطار الثورة كما قال البعض- تحركنا لأننا رأينا العالمانيين قد شحذوا المدي من أجل هذه المادة، فتحركنا رافعين شعار عدم اللوم والعتاب والمسئولية الجماعية، فنرجو أن تكون هذه هي الروح الحاكمة للجميع.
ومن رجع إلى تصريحاتنا في ظل التسلط الأمني وقبل هذه الثورة يجد أننا صرحنا أكثر من مرة أن المادة الثانية من الدستور لها أهمية قصوى في منع المزيد من التدهور التشريعي، ووجودها له أهمية كبرى في طبيعة علاقة الإسلاميين بالدولة.
ونحن لا نجامل ولا نسمي الباطل حقًّا، ولكن نصف كل شيء بما يستحقه، ونقول أن دولة بنص دستورها على مرجعية الشريعة حتى لو لم يطبق أهون شرًّا بكثير مما تريده بنا الثلة العالمانية، ولكل مسألة حكمها.
وأما مسألة كونها معطلة فغير صحيح؛ بل بحسب تفسير المحكمة الدستورية العليا تسري على القوانين التي سنت بعدها، لا التي سنت قبلها، ونحن نطالب بتفعيلها على ما مضى من قوانين، وهذا لا يتأتى إلا بتثبيتها بطبيعة الحال.
وقد وقفت هذه المادة -بفضل الله تعالى- حائط صد أمام توصيات مؤتمرات السكان في وقت كانت الحركة الاسلامية فيه مشلولة بالقبضة الأمنية الحديدية.
وأما من يظن أنه لم يتكلم أحد على إلغائها فربما لم يصل إلى علم القائل بهذا أن المنادين بها ليسوا أقباط المهجر فحسب؛ بل وأيمن نور الذي صرح بأنه يريد العودة إلى دستور 23، والبرادعي، ومجموعات ممن يسمون أنفسهم مثقفين تملأ دعواتهم السهل والوادي، واستفزت شيوخ أزهريين كما أسلفنا.
وأما أننا في مأمن الآن بعد تشكيل اللجنة فكلام صحيح إلى حد كبير، ولكن لابد من الانتباه إلى عدة أمور:
1- أن حملتنا بدأت قبل تشكيل هذه اللجنة، ولا أريد أن اقول أنها ساهمت -بفضل الله- بخروجها بهذا الشكل.
2- أن هذه اللجنة تحتاج إلى زخم شعبي حتى لا تتهم أنها راعت أيدولوجيات أعضائها وليست الإرادة العامة للشعب.
3- أن المستشار طارق البشري يقود هو الآخر حملة إعلانية فردية للدفاع عن أهمية المادة الثانية، وهذا ما يؤكد الحاجة الماسة لذلك.
4- أن المتربصين بهذه المادة يطرحون عمل دستور جديد بعد انتهاء الفترة الانتقالية.
وأما كون أن المادة سوف تطرح في استفتاء عام فهذا يؤكد أهمية التحرك المبكر، لا سيما وهو متاح.
بالإضافة إلى أن هناك أمرًا في غاية الخطورة؛ وهو ما نقلته "رويترز" عن من أسمتهم بمجموعة من المثقفين المصريين الذين يقترحون عمل دستور جديد عن طريق جميعة تأسيسية مختارة، وليس عن طريق استفتاء شعبي، مما يعني أهمية وجود حركة استباقية مبكرة.
وفي النهاية: هذه المؤتمرات وإن جعلت الحد الأدنى لمطالبها هو عدم المساس بالشريعة الاسلامية؛ فإن تفاصيل القضايا التي تقال فيها أشمل من ذلك بكثير -بفضل الله تعالى-، ففيها تُشرح قضية "إن الحكم إلا لله"، وتُبين محاسن الشريعة، ويُبين عور العالمانية.
وفي النهاية: طالَبَنا المؤيدون للتظاهر أن نكف عن النهي عنها طالما أننا لا نرى المشاركة، وقد استجبنا لذلك وزيادة، فهل نأمل من إخواننا الأفاضل الذين يرون هذه المؤتمرات والندوات -التى تشرح قضية "إن الحكم إلا لله"، وتبين محاسن الشريعة، وتبين عور العالمانية، وتجعل الحد الأدنى لمطالب الجمهور هو عدم التقهقر للخلف- أنها إضاعة للوقت والجهد، و لكنها في النهاية لا يتوقع منها مفسدة، فهل من الممكن أن تتسع الصدور لذلك حفاظًا على روح الأخوة الإيمانية؟
وأما شكل المرحلة القادمة؛ فالدعوة تتابع المستجدات أولاً بأول، وتدرس الواقع، ويسرها أن تستفيد بآراء ونصائح وتوجيهات أبنائها، بل وعموم المسلمين عبر البريد الخاص بموقعي: "صوت السلف"، و"أنا السلفي".
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى