مناقشات في الدعوة والسياسة
الإثنين 04 مارس 2013, 9:21 pm
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنتناول في هذا المقال رؤوس أقلام لموضوعات كثيرة تتعلق بالعمل الدعوي والعمل السياسي، أذكرها ها هنا مجموعة مختصرة على أنني قد بسطت بعضها في مقالات سابقة، وأسأل الله أن يعنيني على تناول باقيها بشيء من البسط لاحقًا -إن شاء الله-.
1- جماعة "الدعوة - المجتمع - الدولة":
النظرة التي نتبناها للعلاقة بين هذه الأمور الثلاث هي أن تعتبر أن دائرة المجتمع هي دائرة كبيرة تضم في داخلها عددًا من الدوائر الصغيرة تمثل الرؤى والاتجاهات والمحاضن التربوية الصغيرة "الجماعات"، وأن الدولة ما هي إلا قبعة على رأس هذا المجتمع.
وأنها يجب أن تكون دولة عادلة راعية لكل من هو داخل الدائرة الكبرى بغض النظر عن الدائرة الصغرى التي خرج منها أفراد تلك الدولة؟
وفي المقابل: فإن هناك تيارات اكتسبت حالة عدائية شديدة تجاه المجتمع، وانزوت في مجتمعات صغيرة سرعان ما اعتبرتها أنها هي جماعة المسلمين كما حدث في جماعة التكفير والهجرة.
وثمة جماعات أخرى لم تصرِّح بكفر المجتمع، وإنما نظرت إليه نظرة دونية وطبَّقت مفهوم استعلاء الإيمان -الذي دعا إليه بعض المفكرين- إلى استعلائهم هم على العصاة "أو إن شئتَ قل على مَن سواهم"؛ مما أورث هؤلاء سلوكًا تكفيريًّا وإن كانوا يتفاوتون في طريقة تنظيرهم لهذا السلوك.
وثمة اتجاهات أخرى تعاملت مع المجتمع الكبير، ولكن لم تتعامل معه من نفس الباب الذي وصفناه، وإنما أوتوا من قِبَل استغراقهم في مفهوم أن الإسلام دين ودولة أكثر من استغراقهم في صورة المجتمع المسلم الكبير، ومِن ثَمَّ تجد أن هؤلاء تتركز أنظارهم في دائرتين: "دائرة الجماعة، ودائرة الدولة" بينما لا يمثِّل المجتمع الكبير في عرفهم إلا طريقًا واصلاً بين الدائرتين.
2- جماعة الدعوة "المنهج - الحركة - القيادة":
أهم العناصر التي ينبغي دراستها في أي جماعة هي:
أولاً: "المنهج" وبالأخص:
أ- منهج الاستدلال والتلقي.
ب- المنهج العقدي.
ت- المنهج التربوي.
"في حالة الدعوة السلفية نلخصها بقولنا: توحيد - اتباع - تزكية".
ثانيًا: الحركة ويدخل فيها:
أ- مناهج التغيير.
ب- طبيعة التنظيم.
ت- وسائل الدعوة.
ث- بالأخص الموقف من العمل السياسي.
ثالثًا: القيادات التاريخية والمعاصرة:
بالنسبة للدعوة السلفية لدينا محطات تاريخية: "القرون الثلاثة الفاضلة ككل - الإمام أحمد بن حنبل شيخ الإسلام بن تيمية - شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محب الدين الخطيب". والقيادات الحالية: "مجلس أمناء الدعوة السلفية".
والمشكلة أن هناك اتجاهاتٍ تختزل كل تراثها في مرجعية المؤسس وتراثه؛ مما يوجد مساحة من الالتباس والتعصب وصعوبة التحاور، وتحتاج هذه التيارات إلى أن تعيد تقديم مشروعها مجردًا عن شخصيات القائد والمؤسس مهما بلغت مكانته في نفوس أتباعه أو في نفوس الأمة ككل.
3- مجالات الإصلاح: "الفرد - المجتمع - الدولة":
العلاقة بين هذه الثلاث أشبه بمصنع من ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: تأخذ مادة خامًا وتعطي منتجًا أوليًّا "تربية الفرد يدخلها إنسان فتعطي إنسانًا صالحًا".
المرحلة الثانية: تأخذ المنتج الأولى وتعطي منتجًا ثانويًّا "التعاون على البر والتقوى يُنتِج من مجموعة أفراد مجتمعًا صالحًا".
المرحلة الثالثة: تأخذ منتج الثانية وتعطي منتجًا نهائيًّا "العمل السياسي يعكس صلاح المجتمع على الدولة".
ومعنى ذلك تكامل وتزامن هذه المراحل، وأن الاهتمام بالمرحلة الثالثة على حساب المرحلتين الأوليتين يوصل المصنع "الحركة الإسلامية" إلى الشلل التام.
وإذا أصاب مرحلة ما عطب بحيث كانت تفسد بدلاً من أن تضيف إليه ما يدخل إليها؛ فالواجب إيقافه "المنع من العمل السياسي متى تعارض مع الثوابت".
فإذا تم إصلاح لهذا العطب فلا بأس بالاهتمام الزائد "مؤقتا" بالمرحلة الثالثة "العمل السياسي" -كحالتنا بعد ثورة "25 يناير-.
ولكن يجب الحذر من تحول هذا الاستثناء إلى أصل "بعد ثورة 25 يناير استعددنا لمرحلة انتقالية لمدة ستة أشهر طالت لسنتين مما يستلزم العودة فورًا إلى التوازن المطلوب".
4- حدود إصلاح الدولة المعاصر:
النظام السياسي المطبق في كل دول العالم الآن هو ما يعرف بالدولة الدستورية القانونية الحديثة، وهو نظام يلتقي مع النظام الإسلامي في أمور ويفارقه في أمور "أخطرها: فصل الدين عن الدولة".
ومعظم النظم السياسية في العالم الإسلامي لم تأخذ من تلك الدولة الحديثة إلا فصلها للدين عن الدولة بدرجات متفاوتة من دولة إلى أخرى، بينما مارست أشد أنواع الديكتاتورية باسم الديمقراطية!
وكافحت الحركة الإسلامية المعاصرة من أجل تحسين وضع الدول الإسلامية المعاصرة في اتجاهين:
الأول: محاربة العالمانية.
الثاني: محاربة الديكتاتورية.
وكان القدْر المتاح في محاربة العالمانية وفق النظام الدستوري هو إلزام السلطات التي تحددت وفق هذا النظام سواء التشريعية أو التنفيذية "والقضائية بالتبع لهما" بعدم مخالفة الشريعة فيما يصدر عنهما من قوانين وقرارات فيما عُرف بنظام الدولة الدستورية القانونية الحديثة ذات المرجعية الإسلامية، وهذا النموذج من النظم السياسية ليس مطابقًا لنظام الإمامة الذي تكوَّن عبر تاريخ الأمة، ولكنه في ذات الوقت غير مصادم للقطعيات الشرعية وإن بقيت فيه مخالفات يمكن التغلب عليها.
5- الرئيس الإسلامي:
ما هو التكييف الشرعي للرئيس الإسلامي؟
الصحيح أن أدق وصف هو أنه "رئيس إسلامي!"؛ لأن وصف الإمامة قد يُفهم منه أنه تَولى بـ"عقد الإمامة" المذكور في كتب الفقه.
والحاصل أنه تولى بـ"عقد أخص": "مِن جهة الشروط المتوافرة فيه - ومن جهة الحدود المكانية (الولاية) - ومن جهة الحدود الزمانية (المدة) - ومن جهة الصلاحيات".
ومِن ثَمَّ فإن كلمة "رئيس" كلمة واضحة محددة تحيل إلى الدستور الذي يمثِّل العقد الذي بناء عليه تَولى "الرئيس"، والذي يحكم المسلم في تعامله مع كل أحد قوله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2).
ومن وجبتْ له على المسلم طاعة من والد أو زوج أو حاكم سواء جاء بعقد الإمامة أو بعقد الرئاسة فهو مقيد بصلاحيات ذلك الأمر، ومقيد بطاعة الله -عز وجل- كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).
وإضافة وصف "الإسلامي" تعني الاتفاق معه على الأصول العامة للمشروع، ومِن ثَمَّ ففيها تحفيز أكبر للنفوس على معاونته ومناصحته.
6- هل تجوز مناصحة الرئيس الإسلامي علنـًا؟
لقد كان بعض من المنتسبين للدعوة قبل الثورة يدافعون عن الحاكم الظالم بإنزال نصوص في غير موضعها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) (رواه البخاري)، وكانت معظم فصائل الصحوة تواجههم بالنصوص التي تتضمن الإنكار على أفاضل الحكام كعمر -رضي الله عنه-؛ لكي تُبيِّن لهم أن عليهم أن يفهموا ما تمسكوا به من نصوص على ضوء غيرها من النصوص الأخرى، وبناءً على هدي السلف في تطبيقها.
والآن بعد أن أصبح لدينا رئيس إسلامي نسي البعض تلك الأدلة! وترسب في عقله الباطن أننا كنا نواجه بها الحاكم العالماني الجائر، وهذا صحيح، ولكن هذا لا يعني إطلاقًا أن نخصها به!
إن محاولة بسط الحماية للرئيس الإسلامي سواء من النصيحة مطلقـًا أو حتى تقييدها بالنصيحة في السر في الأمور العامة المعلنة التي تعلق حق لعموم الأمة فيها -وليس الحاكم وحده- هو:
أولاً: مخالف للنصوص الشرعية.
ثانيًا: مخالف لما وعدنا به الناس، وقد شنفنا أسماعهم بأن الصورة المثلى للحاكم عندنا هو من يُنصح علنًا؛ فيُسر بذلك ويقول: "أصابت امرأة، واخطأ عمر".
ثالثًا: من الناحية السياسية تتعرض التجربة الإسلامية بأسرها للخطر؛ حيث يفقد الناس الثقة بالخطاب الإسلامي، والأخطر من ذلك: أن يترسب لديهم أن الإسلاميين يوظفون ثقة الناس بهم ليختاروا لهم من بين أنفسهم رئيسًا ثم إذا وصل إلى الكرسي أحاطوه بسياج من التقديس! أو -على الأقل- لا ينصحون له فيما يتعلق بمصالح الناس.
فيا قومنا... انصحوا الرئيس سرًّا وجهرًا، واعلموا أن النصيحة في الأمور العامة هي حق للناس عليكم وهي حق للرئيس عليكم، كما أن الاستماع إليها واجب عليه، وإذ نصحتموه نصيحة فقال: "أصبتم وأخطأتُ"؛ ففي هذا رفعة له، وإن جاء في أخرى فأجاب بما يروي الغليل رفعتم بذلك الحرج عنه وعن الناس أجمعين، وقطعتم الطريق على المشككين والمغرضين.
7- بيعة الجماعات في ظل رئيس إسلامي:
هل يجوز عند مَن يرى مشروعية العمل الجماعي أخذ البيعة عليه كفرع على ذلك؟
الجواب: إن ذلك يجوز متى كانت البيعة هي مجرد "تغليظ" للتعاهد الذي بين أفراد تلك الجماعة على احترام نظامهم الخاص -فيما لا يخالف الشرع قطعًا-، وأما إذا اُعتبرت بديلاً عن بيعة الإمام أو أُعطيت أحكامها فغير جائزة؛ لما في ذلك من مفاسد قد يترتب عليها سلوك من أفراد الجماعات التي ترى ذلك تجاه سائر المجتمع يكون فيه نوع من غمط حق الناس أو ازدرائهم أو غير ذلك من المفاسد... ونظرًا لاشتباه الصورتين ظاهرًا تحاشت "الدعوة السلفية" قضية البيعة برمتها.
ولكن الآن بعد وجود رئيس إسلامي ما أثر ذلك على مشروعية العمل الجماعي؟ وعلى البيعة؟
الجواب: إن من كانت المشروعية عنده نابعة من أن العمل الجماعي هو نوع من التعاون على البر والتقوى يجوز في وجود الإمام ويتأكد عند غيابه أو تقصيره؛ فلا يؤثر وجود الرئيس الإسلامي على مشروعية هذا الأمر، وأما من بنى الأمر على أن بيعته بديلة عن بيعة الإمام فيحتاج إلى إعادة نظر فيها.
ومن هذه الأمثلة: قول الأستاذ "عبد الله ناصح علوان" في كتابه "بين العمل الفردي والعمل الجماعي": "روى مسلم عنه -عليه الصلاة والسلام-: (مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)، هذا الحديث يوجِّه كل مسلم إلى أن يبايع إمامًا للمسلمين يحكمهم ويقوم على شئونهم، وعند غيابه فعلى المسلم أن يبايع الأمير الذي اتفق على بيعته كثير من المسلمين في العالم الإسلامي؛ لكونه ينوب منابه ويقوم مقامه... وتظل هذه البيعة قائمة إلى أن ينصب حاكم عام للمسلمين ويكون إمامًا عليهم عند قيام دولتهم الراشدة ووحدتهم الشاملة.
ومما يوجِّه إليه الحديث أيضًا أن الذي يموت ولم يبايع (مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) أي: يموت وقد خلع من عنقه ربقة الإسلام، فالحكم الشرعي الذي نستنتجه أن التزام الجماعة أمر واجب، وإذا لم يلتزم المسلم بها فإنه يبوء بالإثم ويتخبط في ظلمات الجاهلية".
فمثل هذه البيعات في حاجة إلى نقض وإعادة تأسيس على مطلق التعاون على البر والتقوى.
8- هل الغاية في الشرع تبرر الوسيلة؟!
مِن أشنع الأخطاء التي يقع فيها البعض والتي يترتب عليها الكثير من المآسي في مسيرة العمل الإسلامي اعتماد قاعدة أن: "الغاية تبرر الوسيلة!".
ويتم التوصل إلى هذه النتيجة عبر مقدمتين كلاهما خاطئة:
الأولى: توهُّم صاحب هذه القاعدة أنه في حالة حرب!
الثانية: سوء تفسير قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الحَرْبُ خَدْعَةٌ) (متفق عليه).
وينبني على هاتين المقدمتين أن يعيش صاحبها في حالة خداع دائم مع نفسه ومع الغير!
والواقع أن المقدمة الأولى تحتاج من صاحبها إلى أن يعرف أن: حتى الكفار منهم المعاهد والمستأمن والذمي ولا يطبق على أي منهم قواعد الحرب، بل تطبق قواعد السلم والموادعة؛ فكيف بمن يتصور لوجود مناوأة لدعوته أن حياته كلها حرب؟!
وأما المقدمة الثانية: فالواقع أن هذا الحديث لابد وأن يُفهم في ضوء النصوص الأخرى، وقد نبَّه شراح الحديث على ذلك.
ومنهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- حيث قال في (الفتح): "قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز خِدَاع الْكُفَّار فِي الْحَرْب كَيْفَمَا أَمْكَنَ, إِلا أَنْ يَكُون فِيهِ نَقْضُ عَهْد أَو أَمَانٍ فَلا يَجُوز. قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: الْخِدَاع فِي الْحَرْب يَقَع بِالتَّعْرِيضِ وَبِالْكَمِينِ وَنَحْو ذَلِكَ".
وبهذا النقل -وبمراجعة ما تحته خط- يتبين: أن هذا الحديث ليس بالإطلاق الذي يفهمه بعضهم، وأن حتى الحرب في الإسلام تحكمها أخلاق عظيمة! ومِن عجب أن كثيرًا ممن يستدل بهذا الحديث في غير موضعه هو ممن يكثر من ذكر وفاء المسلمين بعهودهم حتى في الحرب! ولعلنا نعود إلى هذا الأمر بشيء من البسط لاحقًا -إن شاء الله-.
9- حتى لا نقع في البهتان... !
ما الواجب علينا شرعًا عند وجود اتهام موجه من طرف إلى آخر؟
أولاً: ننصح كل طرف بالواجب عليه:
أ- الواجب على المُدَّعِي ألا يلجأ إلى إعلان التهمة إلا بغرض النصيحة، وأن يكون قد استفرغ وسعه في الإصلاح، وأن يكون على يقين مما يدَّعيه بعيدًا عن الظنون.
ب- الواجب على المُدَّعَى عليه أن يقر بما عليه من حقوق سواء كانت حقوقًا خاصة للمدّعِي أو عامة.
ثانيًا: فإذا أنكر المُدًّعَى عليه... فالقاعدة الشرعية معروفة، وهي:
أ- في حالة الحقوق الخاصة فالقاعدة: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، أي يُطالـَب المدعِي بالبينة، فإن عجز لزم المدعَى عليه اليمين.
ب- في المنكرات العامة لابد للمدعِي من بينة ولا يلزم المدعَى عليه شيء كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).
ويؤخذ من الآية الآتي:
أ- أن المدعِي إما أن يأتي بالبينة وإما أن يكون فاسقًا.
ب- أن المدعَى عليه إما أن تثبت عليه البينة وإما أن يكون بريئًا، ولو زاد بحلف اليمين يكون قد بالغ في تبرئة نفسه.
ت- أن الناقل لهذا الخبر إنْ نقله لمجرد الدعوى دون بينة فهو من الجاهلين بنص الآية، وهو من الكاذبين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) (رواه مسلم في مقدمة صحيحه).
ويتأكد هذا في حق الكبير أو المقدَّم والعالم كما قال الإمام مالك -رحمه الله-: "اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلا يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُو يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"، ومِن هذا الأثر يُعلم أنه يجب على العالم والحاكم في ذلك أكثر مما يجب على غيرهم.
10- حزب أيديولوجي بأداء توافقي:
يستغرب الكثيرون عندما يجدون "حزب النور" يقدم حلولاً توافقية في ذات الوقت الذي يتمسك فيه بثوابته، وسبب دهشة هؤلاء أنهم لا يعرفون إلا الأنماط التي أوجدتها الحياة السياسية الغربية.
وفي الواقع: إن الإسلام الذي يأمر بالتمسك بالعقيدة هو في ذات الوقت الذي يأمر بمراعاة المصالح والمفاسد، والتماس الوسائل المؤدية لهذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ولعل واقعة بناء الكعبة وما اقترحه النبي -صلى الله عليه وسلم- لحل النزاع بين القبائل وقد كان ذلك قبل البعثة وتأكد بعدها في عدد من المواقف من أبرز ما يدل على ذلك، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري)، ثم "أبدى مرونة في التفاوض معهم ما زالت مضرب المثل في فن التفاوض!"، بل يبلغ الأمر أن يؤجل تطبيق ما يمكن أن يؤدي إلى فتنة "مع بيانه وتوضيحه"، كما في تأجيله -صلى الله عليه وسلم- لإعادة بناء الكعبة.
وقريب من هذا المعنى: التفريق بين المداهنة المحرمة المنهي عنها في قوله -تعالى-: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) (الإسراء:74)، وفي قوله -عز وجل-: (وَدُّوا لَوتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9)، وبين المداراة التي استعملها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من وصفه بأنه بئس أخو العشيرة.
والفرق بيْن الأمرين:
أن المداهنة المحرمة هي: أن تتنازل عن شيء من "الدين" بلا "إكراه معتبر ولا مفسدة متحققة" من أجل مصلحة غالبًا ما تكون في "الدنيا".
وأما المداراة المباحة -والتي قد تجب بحسب الأحوال- فهي: أن تتنازل عن شيء من "الدنيا" من أجل مصلحة من "الدين" أو"الدنيا".
وإذا كان مسلك مَن يتمسك في جميع مواقفه مرفوضًا، ومسلك مَن يلين في جميع مواقفه مرفوضًا؛ فإن مما يجب أن يُرفض "بدرجة أشد" أن يبدي "البعض" مرونة حيث يجب إبداء الصلابة، ويبدي الصلابة حيث يسع الكثير من المرونة!
www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنتناول في هذا المقال رؤوس أقلام لموضوعات كثيرة تتعلق بالعمل الدعوي والعمل السياسي، أذكرها ها هنا مجموعة مختصرة على أنني قد بسطت بعضها في مقالات سابقة، وأسأل الله أن يعنيني على تناول باقيها بشيء من البسط لاحقًا -إن شاء الله-.
1- جماعة "الدعوة - المجتمع - الدولة":
النظرة التي نتبناها للعلاقة بين هذه الأمور الثلاث هي أن تعتبر أن دائرة المجتمع هي دائرة كبيرة تضم في داخلها عددًا من الدوائر الصغيرة تمثل الرؤى والاتجاهات والمحاضن التربوية الصغيرة "الجماعات"، وأن الدولة ما هي إلا قبعة على رأس هذا المجتمع.
وأنها يجب أن تكون دولة عادلة راعية لكل من هو داخل الدائرة الكبرى بغض النظر عن الدائرة الصغرى التي خرج منها أفراد تلك الدولة؟
وفي المقابل: فإن هناك تيارات اكتسبت حالة عدائية شديدة تجاه المجتمع، وانزوت في مجتمعات صغيرة سرعان ما اعتبرتها أنها هي جماعة المسلمين كما حدث في جماعة التكفير والهجرة.
وثمة جماعات أخرى لم تصرِّح بكفر المجتمع، وإنما نظرت إليه نظرة دونية وطبَّقت مفهوم استعلاء الإيمان -الذي دعا إليه بعض المفكرين- إلى استعلائهم هم على العصاة "أو إن شئتَ قل على مَن سواهم"؛ مما أورث هؤلاء سلوكًا تكفيريًّا وإن كانوا يتفاوتون في طريقة تنظيرهم لهذا السلوك.
وثمة اتجاهات أخرى تعاملت مع المجتمع الكبير، ولكن لم تتعامل معه من نفس الباب الذي وصفناه، وإنما أوتوا من قِبَل استغراقهم في مفهوم أن الإسلام دين ودولة أكثر من استغراقهم في صورة المجتمع المسلم الكبير، ومِن ثَمَّ تجد أن هؤلاء تتركز أنظارهم في دائرتين: "دائرة الجماعة، ودائرة الدولة" بينما لا يمثِّل المجتمع الكبير في عرفهم إلا طريقًا واصلاً بين الدائرتين.
2- جماعة الدعوة "المنهج - الحركة - القيادة":
أهم العناصر التي ينبغي دراستها في أي جماعة هي:
أولاً: "المنهج" وبالأخص:
أ- منهج الاستدلال والتلقي.
ب- المنهج العقدي.
ت- المنهج التربوي.
"في حالة الدعوة السلفية نلخصها بقولنا: توحيد - اتباع - تزكية".
ثانيًا: الحركة ويدخل فيها:
أ- مناهج التغيير.
ب- طبيعة التنظيم.
ت- وسائل الدعوة.
ث- بالأخص الموقف من العمل السياسي.
ثالثًا: القيادات التاريخية والمعاصرة:
بالنسبة للدعوة السلفية لدينا محطات تاريخية: "القرون الثلاثة الفاضلة ككل - الإمام أحمد بن حنبل شيخ الإسلام بن تيمية - شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محب الدين الخطيب". والقيادات الحالية: "مجلس أمناء الدعوة السلفية".
والمشكلة أن هناك اتجاهاتٍ تختزل كل تراثها في مرجعية المؤسس وتراثه؛ مما يوجد مساحة من الالتباس والتعصب وصعوبة التحاور، وتحتاج هذه التيارات إلى أن تعيد تقديم مشروعها مجردًا عن شخصيات القائد والمؤسس مهما بلغت مكانته في نفوس أتباعه أو في نفوس الأمة ككل.
3- مجالات الإصلاح: "الفرد - المجتمع - الدولة":
العلاقة بين هذه الثلاث أشبه بمصنع من ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: تأخذ مادة خامًا وتعطي منتجًا أوليًّا "تربية الفرد يدخلها إنسان فتعطي إنسانًا صالحًا".
المرحلة الثانية: تأخذ المنتج الأولى وتعطي منتجًا ثانويًّا "التعاون على البر والتقوى يُنتِج من مجموعة أفراد مجتمعًا صالحًا".
المرحلة الثالثة: تأخذ منتج الثانية وتعطي منتجًا نهائيًّا "العمل السياسي يعكس صلاح المجتمع على الدولة".
ومعنى ذلك تكامل وتزامن هذه المراحل، وأن الاهتمام بالمرحلة الثالثة على حساب المرحلتين الأوليتين يوصل المصنع "الحركة الإسلامية" إلى الشلل التام.
وإذا أصاب مرحلة ما عطب بحيث كانت تفسد بدلاً من أن تضيف إليه ما يدخل إليها؛ فالواجب إيقافه "المنع من العمل السياسي متى تعارض مع الثوابت".
فإذا تم إصلاح لهذا العطب فلا بأس بالاهتمام الزائد "مؤقتا" بالمرحلة الثالثة "العمل السياسي" -كحالتنا بعد ثورة "25 يناير-.
ولكن يجب الحذر من تحول هذا الاستثناء إلى أصل "بعد ثورة 25 يناير استعددنا لمرحلة انتقالية لمدة ستة أشهر طالت لسنتين مما يستلزم العودة فورًا إلى التوازن المطلوب".
4- حدود إصلاح الدولة المعاصر:
النظام السياسي المطبق في كل دول العالم الآن هو ما يعرف بالدولة الدستورية القانونية الحديثة، وهو نظام يلتقي مع النظام الإسلامي في أمور ويفارقه في أمور "أخطرها: فصل الدين عن الدولة".
ومعظم النظم السياسية في العالم الإسلامي لم تأخذ من تلك الدولة الحديثة إلا فصلها للدين عن الدولة بدرجات متفاوتة من دولة إلى أخرى، بينما مارست أشد أنواع الديكتاتورية باسم الديمقراطية!
وكافحت الحركة الإسلامية المعاصرة من أجل تحسين وضع الدول الإسلامية المعاصرة في اتجاهين:
الأول: محاربة العالمانية.
الثاني: محاربة الديكتاتورية.
وكان القدْر المتاح في محاربة العالمانية وفق النظام الدستوري هو إلزام السلطات التي تحددت وفق هذا النظام سواء التشريعية أو التنفيذية "والقضائية بالتبع لهما" بعدم مخالفة الشريعة فيما يصدر عنهما من قوانين وقرارات فيما عُرف بنظام الدولة الدستورية القانونية الحديثة ذات المرجعية الإسلامية، وهذا النموذج من النظم السياسية ليس مطابقًا لنظام الإمامة الذي تكوَّن عبر تاريخ الأمة، ولكنه في ذات الوقت غير مصادم للقطعيات الشرعية وإن بقيت فيه مخالفات يمكن التغلب عليها.
5- الرئيس الإسلامي:
ما هو التكييف الشرعي للرئيس الإسلامي؟
الصحيح أن أدق وصف هو أنه "رئيس إسلامي!"؛ لأن وصف الإمامة قد يُفهم منه أنه تَولى بـ"عقد الإمامة" المذكور في كتب الفقه.
والحاصل أنه تولى بـ"عقد أخص": "مِن جهة الشروط المتوافرة فيه - ومن جهة الحدود المكانية (الولاية) - ومن جهة الحدود الزمانية (المدة) - ومن جهة الصلاحيات".
ومِن ثَمَّ فإن كلمة "رئيس" كلمة واضحة محددة تحيل إلى الدستور الذي يمثِّل العقد الذي بناء عليه تَولى "الرئيس"، والذي يحكم المسلم في تعامله مع كل أحد قوله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2).
ومن وجبتْ له على المسلم طاعة من والد أو زوج أو حاكم سواء جاء بعقد الإمامة أو بعقد الرئاسة فهو مقيد بصلاحيات ذلك الأمر، ومقيد بطاعة الله -عز وجل- كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).
وإضافة وصف "الإسلامي" تعني الاتفاق معه على الأصول العامة للمشروع، ومِن ثَمَّ ففيها تحفيز أكبر للنفوس على معاونته ومناصحته.
6- هل تجوز مناصحة الرئيس الإسلامي علنـًا؟
لقد كان بعض من المنتسبين للدعوة قبل الثورة يدافعون عن الحاكم الظالم بإنزال نصوص في غير موضعها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) (رواه البخاري)، وكانت معظم فصائل الصحوة تواجههم بالنصوص التي تتضمن الإنكار على أفاضل الحكام كعمر -رضي الله عنه-؛ لكي تُبيِّن لهم أن عليهم أن يفهموا ما تمسكوا به من نصوص على ضوء غيرها من النصوص الأخرى، وبناءً على هدي السلف في تطبيقها.
والآن بعد أن أصبح لدينا رئيس إسلامي نسي البعض تلك الأدلة! وترسب في عقله الباطن أننا كنا نواجه بها الحاكم العالماني الجائر، وهذا صحيح، ولكن هذا لا يعني إطلاقًا أن نخصها به!
إن محاولة بسط الحماية للرئيس الإسلامي سواء من النصيحة مطلقـًا أو حتى تقييدها بالنصيحة في السر في الأمور العامة المعلنة التي تعلق حق لعموم الأمة فيها -وليس الحاكم وحده- هو:
أولاً: مخالف للنصوص الشرعية.
ثانيًا: مخالف لما وعدنا به الناس، وقد شنفنا أسماعهم بأن الصورة المثلى للحاكم عندنا هو من يُنصح علنًا؛ فيُسر بذلك ويقول: "أصابت امرأة، واخطأ عمر".
ثالثًا: من الناحية السياسية تتعرض التجربة الإسلامية بأسرها للخطر؛ حيث يفقد الناس الثقة بالخطاب الإسلامي، والأخطر من ذلك: أن يترسب لديهم أن الإسلاميين يوظفون ثقة الناس بهم ليختاروا لهم من بين أنفسهم رئيسًا ثم إذا وصل إلى الكرسي أحاطوه بسياج من التقديس! أو -على الأقل- لا ينصحون له فيما يتعلق بمصالح الناس.
فيا قومنا... انصحوا الرئيس سرًّا وجهرًا، واعلموا أن النصيحة في الأمور العامة هي حق للناس عليكم وهي حق للرئيس عليكم، كما أن الاستماع إليها واجب عليه، وإذ نصحتموه نصيحة فقال: "أصبتم وأخطأتُ"؛ ففي هذا رفعة له، وإن جاء في أخرى فأجاب بما يروي الغليل رفعتم بذلك الحرج عنه وعن الناس أجمعين، وقطعتم الطريق على المشككين والمغرضين.
7- بيعة الجماعات في ظل رئيس إسلامي:
هل يجوز عند مَن يرى مشروعية العمل الجماعي أخذ البيعة عليه كفرع على ذلك؟
الجواب: إن ذلك يجوز متى كانت البيعة هي مجرد "تغليظ" للتعاهد الذي بين أفراد تلك الجماعة على احترام نظامهم الخاص -فيما لا يخالف الشرع قطعًا-، وأما إذا اُعتبرت بديلاً عن بيعة الإمام أو أُعطيت أحكامها فغير جائزة؛ لما في ذلك من مفاسد قد يترتب عليها سلوك من أفراد الجماعات التي ترى ذلك تجاه سائر المجتمع يكون فيه نوع من غمط حق الناس أو ازدرائهم أو غير ذلك من المفاسد... ونظرًا لاشتباه الصورتين ظاهرًا تحاشت "الدعوة السلفية" قضية البيعة برمتها.
ولكن الآن بعد وجود رئيس إسلامي ما أثر ذلك على مشروعية العمل الجماعي؟ وعلى البيعة؟
الجواب: إن من كانت المشروعية عنده نابعة من أن العمل الجماعي هو نوع من التعاون على البر والتقوى يجوز في وجود الإمام ويتأكد عند غيابه أو تقصيره؛ فلا يؤثر وجود الرئيس الإسلامي على مشروعية هذا الأمر، وأما من بنى الأمر على أن بيعته بديلة عن بيعة الإمام فيحتاج إلى إعادة نظر فيها.
ومن هذه الأمثلة: قول الأستاذ "عبد الله ناصح علوان" في كتابه "بين العمل الفردي والعمل الجماعي": "روى مسلم عنه -عليه الصلاة والسلام-: (مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)، هذا الحديث يوجِّه كل مسلم إلى أن يبايع إمامًا للمسلمين يحكمهم ويقوم على شئونهم، وعند غيابه فعلى المسلم أن يبايع الأمير الذي اتفق على بيعته كثير من المسلمين في العالم الإسلامي؛ لكونه ينوب منابه ويقوم مقامه... وتظل هذه البيعة قائمة إلى أن ينصب حاكم عام للمسلمين ويكون إمامًا عليهم عند قيام دولتهم الراشدة ووحدتهم الشاملة.
ومما يوجِّه إليه الحديث أيضًا أن الذي يموت ولم يبايع (مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) أي: يموت وقد خلع من عنقه ربقة الإسلام، فالحكم الشرعي الذي نستنتجه أن التزام الجماعة أمر واجب، وإذا لم يلتزم المسلم بها فإنه يبوء بالإثم ويتخبط في ظلمات الجاهلية".
فمثل هذه البيعات في حاجة إلى نقض وإعادة تأسيس على مطلق التعاون على البر والتقوى.
8- هل الغاية في الشرع تبرر الوسيلة؟!
مِن أشنع الأخطاء التي يقع فيها البعض والتي يترتب عليها الكثير من المآسي في مسيرة العمل الإسلامي اعتماد قاعدة أن: "الغاية تبرر الوسيلة!".
ويتم التوصل إلى هذه النتيجة عبر مقدمتين كلاهما خاطئة:
الأولى: توهُّم صاحب هذه القاعدة أنه في حالة حرب!
الثانية: سوء تفسير قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الحَرْبُ خَدْعَةٌ) (متفق عليه).
وينبني على هاتين المقدمتين أن يعيش صاحبها في حالة خداع دائم مع نفسه ومع الغير!
والواقع أن المقدمة الأولى تحتاج من صاحبها إلى أن يعرف أن: حتى الكفار منهم المعاهد والمستأمن والذمي ولا يطبق على أي منهم قواعد الحرب، بل تطبق قواعد السلم والموادعة؛ فكيف بمن يتصور لوجود مناوأة لدعوته أن حياته كلها حرب؟!
وأما المقدمة الثانية: فالواقع أن هذا الحديث لابد وأن يُفهم في ضوء النصوص الأخرى، وقد نبَّه شراح الحديث على ذلك.
ومنهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- حيث قال في (الفتح): "قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز خِدَاع الْكُفَّار فِي الْحَرْب كَيْفَمَا أَمْكَنَ, إِلا أَنْ يَكُون فِيهِ نَقْضُ عَهْد أَو أَمَانٍ فَلا يَجُوز. قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: الْخِدَاع فِي الْحَرْب يَقَع بِالتَّعْرِيضِ وَبِالْكَمِينِ وَنَحْو ذَلِكَ".
وبهذا النقل -وبمراجعة ما تحته خط- يتبين: أن هذا الحديث ليس بالإطلاق الذي يفهمه بعضهم، وأن حتى الحرب في الإسلام تحكمها أخلاق عظيمة! ومِن عجب أن كثيرًا ممن يستدل بهذا الحديث في غير موضعه هو ممن يكثر من ذكر وفاء المسلمين بعهودهم حتى في الحرب! ولعلنا نعود إلى هذا الأمر بشيء من البسط لاحقًا -إن شاء الله-.
9- حتى لا نقع في البهتان... !
ما الواجب علينا شرعًا عند وجود اتهام موجه من طرف إلى آخر؟
أولاً: ننصح كل طرف بالواجب عليه:
أ- الواجب على المُدَّعِي ألا يلجأ إلى إعلان التهمة إلا بغرض النصيحة، وأن يكون قد استفرغ وسعه في الإصلاح، وأن يكون على يقين مما يدَّعيه بعيدًا عن الظنون.
ب- الواجب على المُدَّعَى عليه أن يقر بما عليه من حقوق سواء كانت حقوقًا خاصة للمدّعِي أو عامة.
ثانيًا: فإذا أنكر المُدًّعَى عليه... فالقاعدة الشرعية معروفة، وهي:
أ- في حالة الحقوق الخاصة فالقاعدة: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"، أي يُطالـَب المدعِي بالبينة، فإن عجز لزم المدعَى عليه اليمين.
ب- في المنكرات العامة لابد للمدعِي من بينة ولا يلزم المدعَى عليه شيء كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).
ويؤخذ من الآية الآتي:
أ- أن المدعِي إما أن يأتي بالبينة وإما أن يكون فاسقًا.
ب- أن المدعَى عليه إما أن تثبت عليه البينة وإما أن يكون بريئًا، ولو زاد بحلف اليمين يكون قد بالغ في تبرئة نفسه.
ت- أن الناقل لهذا الخبر إنْ نقله لمجرد الدعوى دون بينة فهو من الجاهلين بنص الآية، وهو من الكاذبين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) (رواه مسلم في مقدمة صحيحه).
ويتأكد هذا في حق الكبير أو المقدَّم والعالم كما قال الإمام مالك -رحمه الله-: "اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلا يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُو يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"، ومِن هذا الأثر يُعلم أنه يجب على العالم والحاكم في ذلك أكثر مما يجب على غيرهم.
10- حزب أيديولوجي بأداء توافقي:
يستغرب الكثيرون عندما يجدون "حزب النور" يقدم حلولاً توافقية في ذات الوقت الذي يتمسك فيه بثوابته، وسبب دهشة هؤلاء أنهم لا يعرفون إلا الأنماط التي أوجدتها الحياة السياسية الغربية.
وفي الواقع: إن الإسلام الذي يأمر بالتمسك بالعقيدة هو في ذات الوقت الذي يأمر بمراعاة المصالح والمفاسد، والتماس الوسائل المؤدية لهذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ولعل واقعة بناء الكعبة وما اقترحه النبي -صلى الله عليه وسلم- لحل النزاع بين القبائل وقد كان ذلك قبل البعثة وتأكد بعدها في عدد من المواقف من أبرز ما يدل على ذلك، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري)، ثم "أبدى مرونة في التفاوض معهم ما زالت مضرب المثل في فن التفاوض!"، بل يبلغ الأمر أن يؤجل تطبيق ما يمكن أن يؤدي إلى فتنة "مع بيانه وتوضيحه"، كما في تأجيله -صلى الله عليه وسلم- لإعادة بناء الكعبة.
وقريب من هذا المعنى: التفريق بين المداهنة المحرمة المنهي عنها في قوله -تعالى-: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) (الإسراء:74)، وفي قوله -عز وجل-: (وَدُّوا لَوتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9)، وبين المداراة التي استعملها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع من وصفه بأنه بئس أخو العشيرة.
والفرق بيْن الأمرين:
أن المداهنة المحرمة هي: أن تتنازل عن شيء من "الدين" بلا "إكراه معتبر ولا مفسدة متحققة" من أجل مصلحة غالبًا ما تكون في "الدنيا".
وأما المداراة المباحة -والتي قد تجب بحسب الأحوال- فهي: أن تتنازل عن شيء من "الدنيا" من أجل مصلحة من "الدين" أو"الدنيا".
وإذا كان مسلك مَن يتمسك في جميع مواقفه مرفوضًا، ومسلك مَن يلين في جميع مواقفه مرفوضًا؛ فإن مما يجب أن يُرفض "بدرجة أشد" أن يبدي "البعض" مرونة حيث يجب إبداء الصلابة، ويبدي الصلابة حيث يسع الكثير من المرونة!
www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى