اتاتورك و القضاء على الخلافة
الخميس 05 ديسمبر 2013, 4:16 pm
طال بنا العهد منذ حركة الانقلاب الكمالية على الخلافة العثمانية؛ حتى نسي الجيل الحاضر أنه كانت هنا أمة إسلامية واحدة تضافرَت عليها القوى العادية للإجهاز عليها. والواقع أن معالجة الخلافة بالطريقة التي تُدرس بها حاليًّا في المدارس والجامعات، ما هي إلا مجرَّد ترديد لآراء المُستشرِقين مِن اليهود والنصارى، ذات القوالب التفسيرية التي تُساوي بين الخلافة والاستعمار، وتمجِّد الثورة العربية، وغير ذلك مِن آراء غربية، لا يُمكن لباحث مسلم أو حتى محايد أن يوافِق عليها؛ إذ تتضمَّن تزويرًا للتاريخ، وتشويهًا للحقائق، لا سيما حينما تُصوِّر مصطفى كمال أتاتورك في صورة البطل المنقذ.
ولذلك فهذه الأبحاث تتجاهل واقعتَين هامتين:
أولاهما: رفَض السلطان عبدالحميد بَيع أرض فلسطين لليهود، فقام أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بحركة انقلاب ضده وأقصَوه عن الخلافة، وقدم له " قرصوه " وهو يهودي قرار العزل نكاية فيه وانتقامًا منه؛ لرفضه إجابة المطالب اليهودية، ثم شوَّهوا سُمعتَه، وأساؤوا إلى تاريخه في صفحات الكتُب، ويَنبغي على كل مَن يتعرَّض لبحث العلاقة بين اليهود وإسقاط الخلافة أن يَقرأ مُذكِّرات السلطان التي نُشرت أخيرًا[1].
الثانية: كان مصطفى كمال أتاتورك مِن طائفة الدونمة ذات الأصل اليهودي، ولمَن شاء أن يعرفه، فليَرجع إلى المُدافع عنه وكاتب سيرته المسمى بـ أرمسترونج، الذي ضمَّن كتابه كثيرًا من الأوصاف التي تَجعل منه منافسًا لأعتى جبابرة التاريخ.
والحق أنَّ الكتاب بأكمله يعدُّ وثيقة إدانة لا سجلَّ شرف وفخر كما حاول أرمسترونج أن يفعل، مثال ذلك قوله: "ولو أنه وجد في عصر جنكيزخان لبزَّه في عبقريته الحربية، وعزيمته الجبارة، التي لا تُضعفها عاطفة أو رحمة أو وفاء"[2].
ولِمَ يحتاج إلى الرحمة والوفاء، وقد خلَع رداء الإسلام فانقلب كالوحش الكاسر ضدَّ الشعب التركيِّ طاعنًا إياه في عقيدته؟ فقد كان معروفًا للملأ إهماله للدِّين في حياته الخاصة، ومخالفته لكل قواعد اللياقة، وسُخريته من كل الأوضاع "المقدَّسة"[3].
ولو مضَينا في تتبُّع أدوار حياته، لخرجْنا بفِكرة صحيحة عنه.
كلمة عن الخلافة العثمانية[4]:
إذا التزمنا بمنهج الدراسة التحليلية النقدية لتاريخ الخلافة العثمانية، فإنه ينبغي التدقيق في بحث عوامل ثلاثة تشكل أعمدة هذه الدراسة، وهي:
أولاً: الالتزام بمنهج التصور الإسلامي في نظرته للتاريخ؛ حيث تتشكَّل أحداثه وتمضي حركته وفق قاعدتَي:
(أ) المد والجزر: إن المد والجزر في تاريخ الإسلام وأحوال المسلمين تابعان للمد والجزر في الإيمان وقوة معنوياتهم التي تَنبثِق مِن الدِّين[5].
(ب) حقيقة الدفع بين أهل الحق وأهل الباطل؛ قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]؛ أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمُقاتلة طالوت وشجاعة داود، لهلَكوا، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40][6].
ومثل هذه النظرة تحذِّرنا عِلميًّا وإسلاميًّا مِن اقتفاء أثر كتابات المُستشرِقين، الذين نظروا إلى الخلافة نظرةً حاقدةً متحيِّزةً، سببُها ما ورثوه مِن آبائهم وأجدادهم عن الدور الذي لعبتْه هذه الخلافة في تاريخ أوربا؛ فقد كانت جيوشها بين كرٍّ وفرٍّ حتى طرقت أبواب فيينا، إلى جانب خطأ وضع الخلافة في مصافِّ الدول الاستعمارية وتشبيهها بها.
ولعلاج مساوئ هذه النظرة، على الباحث أن يتحرَّك مِن نظريات بصمات الحقد والعداء، التي لا بد وأن يظهر أثرها في مؤلفاتهم.
على الباحث إذًا البدء مِن التصور الإسلامي للخلافة كنظام للحكم، ورابطة دينية وسياسية وحَّدت المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم في إطار واحد، فأوجدت روح التضامن بينهم، وميَّزتهم كأمة إسلامية بصرف النظر عن تضارُب المصالح، أو ظهور الاختلافات التي لا بد منها بين عناصر الأمة.
والدراسة طبقًا لهذا المنهج تقتضي بحث ما آلت إليه الخلافةُ العباسية بعد انحلال رابطتها على أثر سقوط بغداد عام 656 هـ، مع استمرارها في شكل ولايات متناثرة حافظت على اسم الخلافة ثم قيامها مرة أخرى على أسس قوية بواسطة الأتراك العثمانيِّين، الذين قاموا بفتح القسطنطينية وهي العاصمة الشرقية للدولة الرومانية بواسطة محمد الفاتح.
ولا يَنبغي أيضًا إغفال الدور الكبير الذي قام به السلطان عبدالحميد في المحافَظة على الخلافة في وجه أعدائها.
يقول الدكتور الريس رحمه الله:
"إن تاريخ الخلافة الإسلامية في الدول التي تفرَّعت عنها كانت سلسلة مِن أمجاد، وحلقات مِن انتصارات؛ ففي عهودها حدثَت المواقع المجيدة، في اليرموك، والقادسية، ونهاوند، وأجنادين، وبابليون، والقيروان، وغيرها، ثم مواقع حطين، وعين جالوت، والمنصورة وأمثالها، فليت لنا اليوم جزءًا مِن قوَّة أو أمجاد الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية التي كانت مُرتبِطة بها أو مماثلة لها"[7].
ويُحدِّثنا التاريخ بأن الخلفاء أو السلاطين العثمانيِّين الأوائل أبلوا بلاءً حسنًا في رفع شأن دولتهم، وفي نصرة الإسلام ونشرِ لوائه، وظلَّت الخلافة مُزدهِرة ومؤثِّرة في سياسة العالم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فكانت الدولة العثمانية تمثِّل الإسلام أقوى الدول في أوربا كلها، وربما العالم[8].
أما الانهيار، فقد ظهرت بوادرُه في القرن الأخير، وقبل إعلان سقوطها بواسطة حركة الانقلاب العسكري بواسطة جمعية الاتحاد والترقي.
حيث أسهم أعضاء هذه الجمعية بالقِسط الوافر في إنهائها، وثبَت أنهم لا يَنتمون إلى السلالة التركية العُثمانية، ولكنهم خليط مِن أجناس وأديان وقوميات مختلفة، وقاموا بحركة الانقلاب ضدَّ السلطان عبدالحميد؛ بسبب رفضه السماح لليهود بشراء أراضي فلسطين[9].
وفي هذا الصدد، كتب السيد رشيد رضا في مجلة المنار آنذاك يقول: "وإن ملاحدة الترك هم الذين يَبثُّون الدعوة إلى تشويه الدولة العثمانية، ويبثُّون الدعوة إلى الإلحاد، ويُحرِّضون الزنادقة والمرتابين على ترك الإسلام واحتقار تشريعه وآدابه، ولبس قلانس الإفرنج، وإثارة الغيرة القومية والعصبية الجنسية، وقلما ثبَت لهؤلاء الملاحدة نسبٌ صحيح في الشعب التركي الذي صار عريقًا في الإسلام، بل هم أوشابٌ؛ منهم الروسي، والرومي، والبلقاني، واليهودي الأصل، وقد سلطوا على إفساد هذا الشعب؛ بدعاية العصبية الجنسية، وترجمتهم للقوانين الأوربية، ولبسهم البرنيطة، وإن السواد الأعظم من الترك يمقتون هؤلاء الكماليين أشد مما كانوا يمقتون إخوانهم الاتحاديِّين"[10]؛ لذلك يقتضي البحثُ الاستنادَ إلى المصادر الإسلامية التي أُبعِدت عن عمدٍ في الكتب الدراسية، وقُدِّم بدلاً منها مصادر الدوائر الاستشراقية وتلاميذها.
ونقصد بالمصادر الإسلامية الكتبَ التي ألفها العلماء المسلمون المعروفون بالصدق والنزاهة العلمية، والذين نذروا أنفسهم لخدمة الحق، وتصوير التاريخ بمحاسنه ومساوئه[11].
يَنظر نقادُ الخلافة مِن زاوية واحدة، ويَتجاهلون العوامل الآتية:
1- روح العداء الصليبي واليهودي نحو الخلافة الذي ظل حيًّا لم يَخمد، وظهر في أشكال المعارك العسكرية الضارية، والغزو الثقافي المتواصِل. ولعل القارئ لكتاب الدولة العلية كمثال يلاحظ أن الدول الأوربية كثيرًا ما فرضَت الحروب على الدولة العثمانية فرضًا، وكان معظم السلاطين يتفادَون الحروب، لا سيما السلطان عبدالحميد.
2- التفوق العسكري الغربي الذي أخذ يعمل لتحقيقه منذ صدمة الغرب لهزيمته في الحروب الصليبية، فعاد بروح الانتقام والتصميم، فطوَّق العالم الإسلامي بالسيطرة على المحيطات (إنجلترا والبرتغال).
3- لم يُحقِّق أتاتورك أغراضه إلا بكسر إرادة الجماهير المسلمة، التي خدَعها في البداية ثم تنمَّر عليها، فقمع ثورات المسلمين وعلماءهم بأشدِّ أنواع القوة والقسوة، وتاريخ حركة الجهاد الإسلامية بقيادة الشيخ سعيد النورسي تشهد بذلك، وقام أتاتورك بقمع الحركات الإسلامية الشعبية بالقوات العسكرية والمحاكم الثورية الظالمة، التي لا تَحمل مِن حقيقة المحاكم إلا الاسم؛ لأنها كانت تُنفِّذ أحكامًا صدرت قبل انعقادها!
4- هذه العوامل وغيرها ينبغي أن تُحفِّزنا إلى دراسة ذلك كله بمنهج التفسير التاريخي، وبالنظر إلى أحداث التاريخ بمنظار "التدريب القرآني"؛ فإننا نرى استمرار تدافُع الحق والباطل، ولكي نُمسِك بخيوط التدافع في عَصرِنا الحاضر، لا بد أن نبدأ بالغزو الغربي وموجات الاصطدام بالشرق الإسلامي، وأيضًا فإن النكبة التي سببها أتاتورك ما زالت تتفجَّر لتَهدم ولا تبني.
5- البحث عن المخطوطات المدفونة في المكتبات الشرقية والمنهوبة في المكتبات الغربية، واتخاذها كمصادر لأبحاث جديدة، بدلاً مِن الحلقات المفرغة الدائرة في فلك نفس المصادر المعتادة، والتي روجها أعداء الخلافة العثمانية[12].
المصدر: شبكة الألوكة
[1] مذكرات السلطان عبدالحميد، ترجمة د. محمد حرب عبدالحميد، ط دار الأنصار بالقاهرة 1978 م، وأيضًا مذكرات نُشرت باللغة العربية.
[2] أرمسترونج: مصطفى كمال (ص: 244)، ترجمة حلمي مراد، دار المعارف بمصر، سلسلة اقرأ 407 سنة 1976 م، أو الذئب الأغبَر.
[3] أرمسترونج: مصطفى كمال أو الذئب الأغبَر (ص: 206).
[4] يسرُّنا التنويه بالموسوعة التي أصدرها الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الشناوي تحت عنوان: "الدولة العثمانية - دولة إسلامية مفترى عليها" في ثلاثة أجزاء - مكتبة الأنجلو المصرية 1984، ولكن لم نطَّلع عليها إلا والكتاب ماثل للطبع، ولعلنا نعود إليها في أبحاث أخرى - بمشيئة الله تعالى.
[5] أبو الحسن الندوي: المد والجزر في تاريخ الإسلام (ص: 92) الشركة المتحدة، بيروت - دمشق، دار القلم 1391هـ - 1971م.
[6] تفسير ابن كثير (1: 3004) دار الفكر، بيروت 1401هـ - 1981م.
[7] د. محمد ضياء الدين الريس: الإسلام والخلافة في العصر الحديث؛ (نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم) (ص: 284)، منشورات العصر الحديث 1393 هـ - 1973 م.
[8] نفسه (ص: 40، 41).
[9] والآن، وبعد نشر مذكرات السلطان عبدالحميد، وظهور كثير مِن الوثائق التاريخية، فضلاً عن واقع أحوال المسلمين بعد كسر شوكة الخلافة ومعرفة الأسرار وراء حركة إلغائها، الآن ينبغي إنصاف هذا السلطان المفترى عليه، وكتابة تاريخ الخلافة العثمانية أيام سلطنته بأمانة وصدق؛ لمَحوِ آثار الأكاذيب التي أحاطه بها المؤرخون الغربيون من اليهود والنصارى؛ لدوافعهم التي لم تعد خافية.
ولمناسبة حديثنا عن الخلافة، فإن الرجل رحمه الله تعالى كان بحكْم موقعه يدرك تمامًا أهمية هذا النظام السياسي الإسلامى وخشية الدول الأوربية منه، قال في مذكراته: "ولكن الدول الكبرى التي تحكم شعوبًا مسلمة عديدة في آسيا، مثل إنجلترا وروسيا، ترتعد مِن سلاح الخلافة الذي أحمله؛ لهذا السبب استطاعوا الاتفاق على إنهاء الدولة العثمانية"؛ (ص: 67)، مِن مذكرات السلطان عبدالحميد، ترجمة وتقديم د. محمد حرب عبدالحميد، دار الأنصار بالقاهرة: 1978 م.
[10] ينظر كتاب الأستاذ أنور الجندي "تاريخ الصحافة الإسلامية" الجزء الأول: المنار (ص: 149)، دار الأنصار بالقاهرة سنة 1983 م.
[11] ونقصد مؤلفات أمثال الأساتذة الأفاضل: مصطفى كامل بكتاب "المسألة الشرقية"، محمد فريد "تاريخ الدولة العلية"، مصطفى صبري "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"، "موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين" الجزء الرابع، د. محمد ضياء الدين الريس: "الإسلام والخلافة في العصر الحديث"، "الشرق الأوسط في التاريخ الحديث"، الموسوعات التاريخية للأستاذ أنور الجندي ومقالاته وكتبه عن الخلافة العثمانية، موسوعة الدكتور عبدالعزيز الشناوي "الدولة العثمانية - دولة إسلامية مفترى عليها" في ثلاثة أجزاء، وما كتبه عن الخلافة العثمانية أمثال الأساتذة: د. فهمي الشناوي، لا سيما بمجلة "المختار الإسلامي"، والأستاذ سعيد الأفغاني، والأستاذ فتحي رضوان، والشيخ رشيد رضا، والأمير شكيب أرسلان، وينظر أيضًا مذكرات السلطان عبدالحميد التي نُشرت حديثًا وصحَّحت كثيرًا مِن المفاهيم بعد أن فضحت التاريخ المزوَّر في العصر الحديث.
[12] ومما يَجدر ذكره بهذا الصدد أن في إستانبول - وهي العاصمة التي لم يتمَّ غزوُها، وبالتالي لم يتم سرقة مخطوطاتها ووثائقها وآثارها مِن قِبَل المستعمرين - ففي تركيا حوالي مليون مخطوطة ومائة مليون وثيقة!
ينظر استطلاع سليمان الشيخ عن "إعادة كتابة التاريخ الإسلامي في مركز الأبحاث بإستانبول"، بمجلة العربي، العدد 311 أكتوبر سنة 1984.
ولذلك فهذه الأبحاث تتجاهل واقعتَين هامتين:
أولاهما: رفَض السلطان عبدالحميد بَيع أرض فلسطين لليهود، فقام أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بحركة انقلاب ضده وأقصَوه عن الخلافة، وقدم له " قرصوه " وهو يهودي قرار العزل نكاية فيه وانتقامًا منه؛ لرفضه إجابة المطالب اليهودية، ثم شوَّهوا سُمعتَه، وأساؤوا إلى تاريخه في صفحات الكتُب، ويَنبغي على كل مَن يتعرَّض لبحث العلاقة بين اليهود وإسقاط الخلافة أن يَقرأ مُذكِّرات السلطان التي نُشرت أخيرًا[1].
الثانية: كان مصطفى كمال أتاتورك مِن طائفة الدونمة ذات الأصل اليهودي، ولمَن شاء أن يعرفه، فليَرجع إلى المُدافع عنه وكاتب سيرته المسمى بـ أرمسترونج، الذي ضمَّن كتابه كثيرًا من الأوصاف التي تَجعل منه منافسًا لأعتى جبابرة التاريخ.
والحق أنَّ الكتاب بأكمله يعدُّ وثيقة إدانة لا سجلَّ شرف وفخر كما حاول أرمسترونج أن يفعل، مثال ذلك قوله: "ولو أنه وجد في عصر جنكيزخان لبزَّه في عبقريته الحربية، وعزيمته الجبارة، التي لا تُضعفها عاطفة أو رحمة أو وفاء"[2].
ولِمَ يحتاج إلى الرحمة والوفاء، وقد خلَع رداء الإسلام فانقلب كالوحش الكاسر ضدَّ الشعب التركيِّ طاعنًا إياه في عقيدته؟ فقد كان معروفًا للملأ إهماله للدِّين في حياته الخاصة، ومخالفته لكل قواعد اللياقة، وسُخريته من كل الأوضاع "المقدَّسة"[3].
ولو مضَينا في تتبُّع أدوار حياته، لخرجْنا بفِكرة صحيحة عنه.
كلمة عن الخلافة العثمانية[4]:
إذا التزمنا بمنهج الدراسة التحليلية النقدية لتاريخ الخلافة العثمانية، فإنه ينبغي التدقيق في بحث عوامل ثلاثة تشكل أعمدة هذه الدراسة، وهي:
أولاً: الالتزام بمنهج التصور الإسلامي في نظرته للتاريخ؛ حيث تتشكَّل أحداثه وتمضي حركته وفق قاعدتَي:
(أ) المد والجزر: إن المد والجزر في تاريخ الإسلام وأحوال المسلمين تابعان للمد والجزر في الإيمان وقوة معنوياتهم التي تَنبثِق مِن الدِّين[5].
(ب) حقيقة الدفع بين أهل الحق وأهل الباطل؛ قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]؛ أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمُقاتلة طالوت وشجاعة داود، لهلَكوا، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40][6].
ومثل هذه النظرة تحذِّرنا عِلميًّا وإسلاميًّا مِن اقتفاء أثر كتابات المُستشرِقين، الذين نظروا إلى الخلافة نظرةً حاقدةً متحيِّزةً، سببُها ما ورثوه مِن آبائهم وأجدادهم عن الدور الذي لعبتْه هذه الخلافة في تاريخ أوربا؛ فقد كانت جيوشها بين كرٍّ وفرٍّ حتى طرقت أبواب فيينا، إلى جانب خطأ وضع الخلافة في مصافِّ الدول الاستعمارية وتشبيهها بها.
ولعلاج مساوئ هذه النظرة، على الباحث أن يتحرَّك مِن نظريات بصمات الحقد والعداء، التي لا بد وأن يظهر أثرها في مؤلفاتهم.
على الباحث إذًا البدء مِن التصور الإسلامي للخلافة كنظام للحكم، ورابطة دينية وسياسية وحَّدت المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم في إطار واحد، فأوجدت روح التضامن بينهم، وميَّزتهم كأمة إسلامية بصرف النظر عن تضارُب المصالح، أو ظهور الاختلافات التي لا بد منها بين عناصر الأمة.
والدراسة طبقًا لهذا المنهج تقتضي بحث ما آلت إليه الخلافةُ العباسية بعد انحلال رابطتها على أثر سقوط بغداد عام 656 هـ، مع استمرارها في شكل ولايات متناثرة حافظت على اسم الخلافة ثم قيامها مرة أخرى على أسس قوية بواسطة الأتراك العثمانيِّين، الذين قاموا بفتح القسطنطينية وهي العاصمة الشرقية للدولة الرومانية بواسطة محمد الفاتح.
ولا يَنبغي أيضًا إغفال الدور الكبير الذي قام به السلطان عبدالحميد في المحافَظة على الخلافة في وجه أعدائها.
يقول الدكتور الريس رحمه الله:
"إن تاريخ الخلافة الإسلامية في الدول التي تفرَّعت عنها كانت سلسلة مِن أمجاد، وحلقات مِن انتصارات؛ ففي عهودها حدثَت المواقع المجيدة، في اليرموك، والقادسية، ونهاوند، وأجنادين، وبابليون، والقيروان، وغيرها، ثم مواقع حطين، وعين جالوت، والمنصورة وأمثالها، فليت لنا اليوم جزءًا مِن قوَّة أو أمجاد الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية التي كانت مُرتبِطة بها أو مماثلة لها"[7].
ويُحدِّثنا التاريخ بأن الخلفاء أو السلاطين العثمانيِّين الأوائل أبلوا بلاءً حسنًا في رفع شأن دولتهم، وفي نصرة الإسلام ونشرِ لوائه، وظلَّت الخلافة مُزدهِرة ومؤثِّرة في سياسة العالم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فكانت الدولة العثمانية تمثِّل الإسلام أقوى الدول في أوربا كلها، وربما العالم[8].
أما الانهيار، فقد ظهرت بوادرُه في القرن الأخير، وقبل إعلان سقوطها بواسطة حركة الانقلاب العسكري بواسطة جمعية الاتحاد والترقي.
حيث أسهم أعضاء هذه الجمعية بالقِسط الوافر في إنهائها، وثبَت أنهم لا يَنتمون إلى السلالة التركية العُثمانية، ولكنهم خليط مِن أجناس وأديان وقوميات مختلفة، وقاموا بحركة الانقلاب ضدَّ السلطان عبدالحميد؛ بسبب رفضه السماح لليهود بشراء أراضي فلسطين[9].
وفي هذا الصدد، كتب السيد رشيد رضا في مجلة المنار آنذاك يقول: "وإن ملاحدة الترك هم الذين يَبثُّون الدعوة إلى تشويه الدولة العثمانية، ويبثُّون الدعوة إلى الإلحاد، ويُحرِّضون الزنادقة والمرتابين على ترك الإسلام واحتقار تشريعه وآدابه، ولبس قلانس الإفرنج، وإثارة الغيرة القومية والعصبية الجنسية، وقلما ثبَت لهؤلاء الملاحدة نسبٌ صحيح في الشعب التركي الذي صار عريقًا في الإسلام، بل هم أوشابٌ؛ منهم الروسي، والرومي، والبلقاني، واليهودي الأصل، وقد سلطوا على إفساد هذا الشعب؛ بدعاية العصبية الجنسية، وترجمتهم للقوانين الأوربية، ولبسهم البرنيطة، وإن السواد الأعظم من الترك يمقتون هؤلاء الكماليين أشد مما كانوا يمقتون إخوانهم الاتحاديِّين"[10]؛ لذلك يقتضي البحثُ الاستنادَ إلى المصادر الإسلامية التي أُبعِدت عن عمدٍ في الكتب الدراسية، وقُدِّم بدلاً منها مصادر الدوائر الاستشراقية وتلاميذها.
ونقصد بالمصادر الإسلامية الكتبَ التي ألفها العلماء المسلمون المعروفون بالصدق والنزاهة العلمية، والذين نذروا أنفسهم لخدمة الحق، وتصوير التاريخ بمحاسنه ومساوئه[11].
يَنظر نقادُ الخلافة مِن زاوية واحدة، ويَتجاهلون العوامل الآتية:
1- روح العداء الصليبي واليهودي نحو الخلافة الذي ظل حيًّا لم يَخمد، وظهر في أشكال المعارك العسكرية الضارية، والغزو الثقافي المتواصِل. ولعل القارئ لكتاب الدولة العلية كمثال يلاحظ أن الدول الأوربية كثيرًا ما فرضَت الحروب على الدولة العثمانية فرضًا، وكان معظم السلاطين يتفادَون الحروب، لا سيما السلطان عبدالحميد.
2- التفوق العسكري الغربي الذي أخذ يعمل لتحقيقه منذ صدمة الغرب لهزيمته في الحروب الصليبية، فعاد بروح الانتقام والتصميم، فطوَّق العالم الإسلامي بالسيطرة على المحيطات (إنجلترا والبرتغال).
3- لم يُحقِّق أتاتورك أغراضه إلا بكسر إرادة الجماهير المسلمة، التي خدَعها في البداية ثم تنمَّر عليها، فقمع ثورات المسلمين وعلماءهم بأشدِّ أنواع القوة والقسوة، وتاريخ حركة الجهاد الإسلامية بقيادة الشيخ سعيد النورسي تشهد بذلك، وقام أتاتورك بقمع الحركات الإسلامية الشعبية بالقوات العسكرية والمحاكم الثورية الظالمة، التي لا تَحمل مِن حقيقة المحاكم إلا الاسم؛ لأنها كانت تُنفِّذ أحكامًا صدرت قبل انعقادها!
4- هذه العوامل وغيرها ينبغي أن تُحفِّزنا إلى دراسة ذلك كله بمنهج التفسير التاريخي، وبالنظر إلى أحداث التاريخ بمنظار "التدريب القرآني"؛ فإننا نرى استمرار تدافُع الحق والباطل، ولكي نُمسِك بخيوط التدافع في عَصرِنا الحاضر، لا بد أن نبدأ بالغزو الغربي وموجات الاصطدام بالشرق الإسلامي، وأيضًا فإن النكبة التي سببها أتاتورك ما زالت تتفجَّر لتَهدم ولا تبني.
5- البحث عن المخطوطات المدفونة في المكتبات الشرقية والمنهوبة في المكتبات الغربية، واتخاذها كمصادر لأبحاث جديدة، بدلاً مِن الحلقات المفرغة الدائرة في فلك نفس المصادر المعتادة، والتي روجها أعداء الخلافة العثمانية[12].
المصدر: شبكة الألوكة
[1] مذكرات السلطان عبدالحميد، ترجمة د. محمد حرب عبدالحميد، ط دار الأنصار بالقاهرة 1978 م، وأيضًا مذكرات نُشرت باللغة العربية.
[2] أرمسترونج: مصطفى كمال (ص: 244)، ترجمة حلمي مراد، دار المعارف بمصر، سلسلة اقرأ 407 سنة 1976 م، أو الذئب الأغبَر.
[3] أرمسترونج: مصطفى كمال أو الذئب الأغبَر (ص: 206).
[4] يسرُّنا التنويه بالموسوعة التي أصدرها الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الشناوي تحت عنوان: "الدولة العثمانية - دولة إسلامية مفترى عليها" في ثلاثة أجزاء - مكتبة الأنجلو المصرية 1984، ولكن لم نطَّلع عليها إلا والكتاب ماثل للطبع، ولعلنا نعود إليها في أبحاث أخرى - بمشيئة الله تعالى.
[5] أبو الحسن الندوي: المد والجزر في تاريخ الإسلام (ص: 92) الشركة المتحدة، بيروت - دمشق، دار القلم 1391هـ - 1971م.
[6] تفسير ابن كثير (1: 3004) دار الفكر، بيروت 1401هـ - 1981م.
[7] د. محمد ضياء الدين الريس: الإسلام والخلافة في العصر الحديث؛ (نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم) (ص: 284)، منشورات العصر الحديث 1393 هـ - 1973 م.
[8] نفسه (ص: 40، 41).
[9] والآن، وبعد نشر مذكرات السلطان عبدالحميد، وظهور كثير مِن الوثائق التاريخية، فضلاً عن واقع أحوال المسلمين بعد كسر شوكة الخلافة ومعرفة الأسرار وراء حركة إلغائها، الآن ينبغي إنصاف هذا السلطان المفترى عليه، وكتابة تاريخ الخلافة العثمانية أيام سلطنته بأمانة وصدق؛ لمَحوِ آثار الأكاذيب التي أحاطه بها المؤرخون الغربيون من اليهود والنصارى؛ لدوافعهم التي لم تعد خافية.
ولمناسبة حديثنا عن الخلافة، فإن الرجل رحمه الله تعالى كان بحكْم موقعه يدرك تمامًا أهمية هذا النظام السياسي الإسلامى وخشية الدول الأوربية منه، قال في مذكراته: "ولكن الدول الكبرى التي تحكم شعوبًا مسلمة عديدة في آسيا، مثل إنجلترا وروسيا، ترتعد مِن سلاح الخلافة الذي أحمله؛ لهذا السبب استطاعوا الاتفاق على إنهاء الدولة العثمانية"؛ (ص: 67)، مِن مذكرات السلطان عبدالحميد، ترجمة وتقديم د. محمد حرب عبدالحميد، دار الأنصار بالقاهرة: 1978 م.
[10] ينظر كتاب الأستاذ أنور الجندي "تاريخ الصحافة الإسلامية" الجزء الأول: المنار (ص: 149)، دار الأنصار بالقاهرة سنة 1983 م.
[11] ونقصد مؤلفات أمثال الأساتذة الأفاضل: مصطفى كامل بكتاب "المسألة الشرقية"، محمد فريد "تاريخ الدولة العلية"، مصطفى صبري "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة"، "موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين" الجزء الرابع، د. محمد ضياء الدين الريس: "الإسلام والخلافة في العصر الحديث"، "الشرق الأوسط في التاريخ الحديث"، الموسوعات التاريخية للأستاذ أنور الجندي ومقالاته وكتبه عن الخلافة العثمانية، موسوعة الدكتور عبدالعزيز الشناوي "الدولة العثمانية - دولة إسلامية مفترى عليها" في ثلاثة أجزاء، وما كتبه عن الخلافة العثمانية أمثال الأساتذة: د. فهمي الشناوي، لا سيما بمجلة "المختار الإسلامي"، والأستاذ سعيد الأفغاني، والأستاذ فتحي رضوان، والشيخ رشيد رضا، والأمير شكيب أرسلان، وينظر أيضًا مذكرات السلطان عبدالحميد التي نُشرت حديثًا وصحَّحت كثيرًا مِن المفاهيم بعد أن فضحت التاريخ المزوَّر في العصر الحديث.
[12] ومما يَجدر ذكره بهذا الصدد أن في إستانبول - وهي العاصمة التي لم يتمَّ غزوُها، وبالتالي لم يتم سرقة مخطوطاتها ووثائقها وآثارها مِن قِبَل المستعمرين - ففي تركيا حوالي مليون مخطوطة ومائة مليون وثيقة!
ينظر استطلاع سليمان الشيخ عن "إعادة كتابة التاريخ الإسلامي في مركز الأبحاث بإستانبول"، بمجلة العربي، العدد 311 أكتوبر سنة 1984.
د . مصطفى حلمى
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى