وحدة المؤامرة من تقسيم الى التحرير
الأحد 15 ديسمبر 2013, 8:58 pm
منذ اندلاع الثورات العربية والجدل حولها قائم على قدم وساق، ولن ينتهي أبدا، فمن الناس من يرى أن الثورات صناعة أمريكية صهيونية لإحداث القلاقل في العالم العربي، وتحقيق الفوضى الخلاقة؛ لتنفيذ مشروعات الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وتقسيم المقسم في سايكس بيكو جديدة. وهذا الرأي يميل إليه من يحبون ثبات الحال، ويخافون من موجات التغيير، وتروج له الحكومات لإقناع الشعوب بأن أي حراك أو تغيير فهو في مصلحة الأعداء، وسيخلف الفوضى، واقتنع به كثير من الناس بعدما آلت إليه أحوال الشعوب الثائرة.
ومن الناس من يرى أنها ثورات مستقلة، كانت نتيجة طبيعية للظلم والاستبداد، وقهر الناس، والتضييق عليهم في أرزاقهم، وفتح السجون، وتكميم الأفواه، واستشراء الفساد السياسي والإداري والمالي والإعلامي والأخلاقي، حتى فاض غيض الناس عن حده، وانقلب إلى انفجار عارم يقتلع العروش، ويطوح بأصحابها بين قتيل وطريد وسجين.
وأصحاب كلا النظرتين يستدلون لها بأقوال الغربيين واليهود، والذي أظنه أن الثورات العربية ليست من صنع الغرب ولا اليهود، ولكن الغرب واليهود والإيرانيين اجتهدوا في الاستفادة منها، وتوظيفها لمصالحهم، وفرق كبير بين صنع الحدث والاستفادة منه.
وفي تركيا فاز بالانتخابات حزب إسلامي تنويري قريب جدا من العلمانية، ولكن الإسلام في تركيا تنفس بفوزه وبإسقاط الأتاتوركية الاستئصالية، فانتشرت الدعوة الإسلامية، بل وامتدت السلفية، وأيضا حكم هذا الحزب بجدارة متناهية، حصل للمجتمع التركي فيه الرفاه والتنمية.
والمزعج للغرب واليهود في الشأن التركي أمور ثلاثة:
أولها: انحياز السياسة التركية إلى مصلحة الأمة الإسلامية، وظهر ذلك في مواقف أوردغان، منها ما وقع في قمة دافوس 2009م حين تكلم أوردغان بقوة على بيريز وقال: أنتم قتلتم الأطفال في غزة، وحاولوا إسكاته فلم يسكت، ثم قام وتركهم واجتماعهم، ولم يتعود اليهود على هذه اللهجة والتصرف من أحد السياسيين في الدول الإسلامية.
وبعد سنة وأربعة أشهر من هذه الحادثة سار أسطول الحرية من تركيا إلى غزة لكسر الحصار، فاعترضته البحرية الإسرائيلية وأطلقت عليه النيران وقتلت ثمانية أتراك، فطلبت تركيا الاعتذار من إسرائيل فرفضت، فطردت السفير الإسرائيلي، وعلقت الاتفاقات العسكرية، وجمدت مشاريع الطاقة مع إسرائيل، وقبل أشهر اضطرت إسرائيل للاعتذار لتركيا بضغط أمريكي لمصلحة إسرائيل وأمريكا في المنطقة.
وإسرائيل كانت ولا زلت تقدم على الجرائم تلو الجرائم، ولم تتعود على الاعتذار من أحد، وهذه القوة الأردوغانية لم ولن تعجب إسرائيل ولا الغربيين عامة.
ثانيها: الاستقلال بالقرار عن التبعية للدول العظمى، فسياسة أوردغان كانت تعتمد على بناء الفرد التركي، والأمة التركية، بعيدا عن الحاجة لأحد، وقلصت حكومته البطالة إلى أن بلغت أدنى مستوى 8%، في الوقت الذي كانت ترتفع فيه نسب البطالة في أوربا، وسددت قروض تركيا لصندوق النقد الدولي كما أعلن ذلك أوردغان في رجب الماضي، لتصبح تركيا ولأول مرة بلا ديون لصندوق النقد الدولي منذ (52 عاما) ففك أغلالها من الغرب المتسلط، ووثق علاقات تركيا بالدول العربية، وأعاد للأمة التركية هيبتها وقوتها.
ثالثها: إعادة تركيا لحظيرة الإسلام بعد عقود من العلمانية المتطرفة، وذلك بالسماح بالحجاب الذي كان ممنوعا، وبتشجيع التعليم الديني، وتقليص مظاهر العري، ومنع الخمور ليلا، ونحو هذه الإجراءات.
هذه الأمور الثلاثة كانت كافية لتحريك الغرب والصهاينة للأقليات التركية العلمانية والكردية وتحريك إيران للأقلية النصيرية إشغالا لتركيا، وانتقاما لموقفها في سوريا، ثم انضم مع هذه الأقليات الشاذون جنسيا، في مظاهرات لإسقاط الحكومة، أو على الأقل إزعاجها، وإشغالها عن البناء.
ارون شتاين ليبرالي تركي يرأس مركزا لتحديد النسل في اسطنبول يصرح بأن اردوغان فرض أجندة دينية محافظة وقد ظهر ذلك مؤخرا بشكل جلي.
ونشرت مجموعة "فيمن" -وهي مجموعة للمتظاهرت عاريات الصدور- مقطع فيديو مؤيد للمظاهرات في تركيا، ويهتفن قائلات:"مثلكم نحن ضد تحويل تركيا إلى دولة إسلامية" ويدعون إلى إسقاط أردوغان وحكومته.
وتقول إحدى النساء المتظاهرات: "الحكومة تمارس الضغوط في كل شيء: أنجب ثلاثة أطفال لا اثنين فقط، لا تشرب الخمر، لا تدخن، لا تسر في الطريق ويدك في يد حبيبك أو حبيبتك إذا لم تكن العلاقة جدية...أنا ابنة أتاتورك ولا يمكن أن أوافق على ذلك.. نحن كل المحتجين يتشاركون هذه الأفكار لذلك نحن هنا".
إذن المتظاهرون الأتراك لا يهمهم ما بلغته تركيا سياسيا واقتصاديا وعمرانيا، ولا سمعة تركيا التي ارتفعت كثيرا في العهد الأوردغاني، ولا الإصلاح الذي اضطلع به، ولا رفاهية الشعب التركي، ولا تطور البنية التحتية، وازدهار العمران والسياحة في تركيا.. همهم شهواتهم ليس غير.. ويخافون من الأسلمة التي تحد من هذه الشهوات.
أما في الواقع المصري: فالأمر أشد تعقيدا من الواقع التركي؛ لأن أوردغان نجح وثبت نجاحه سياسيا عند الداني والقاصي، أما مرسي فلم يعط فرصة لكي ينجح؛ ولذا اختلف في أدائه المؤيدون والمعارضون:
فالمؤيدون له يرون أنه نجح في مجالات عدة، والمعارضون له يرون أنه ينتقل من فشل إلى فشل، وأن أداءه السياسي ضعيف جدا.
اتهمه المعارضون بأنه يسعى لهيمنة الإخوان على الدولة وابتلاعها، ومصر ليست لقمة سائغة لا للإخوان ولا لغيرهم. واتهموه بأنه خلق عداوات مع دول إقليمية ودولية مؤثرة تسببت في تراجع مصر للوراء، وخنقها اقتصاديا.
وأتهمه بعض السلفيين بأنه قد يبيع الإسلام لأجل السياسة، كما هي براجماتية الإخوان، وعابوا عليه بشدة تحسين العلاقات مع إيران، وفتح مصر للروافض، بينما دافع عنه المؤيدون بأنه كان مضطرا لذلك بسبب خذلان الدول العربية له، بل وتآمر بعضها عليه.
وسواء صحت تهم المعارضين له كلها أو بعضها أم لم تصح، وسواء صح دفاع المؤيدين له عنه أم لم يصح، فإني أرى جملة أمور ثابتة:
أولها: أن التآمر عليه وعلى حكومته بدأ منذ بوادر فوزه في الانتخابات، فالأموال كانت تضخ بكثافة لمنافسيه من دول معادية للإخوان وربما للإسلام. ولما فاز بالرئاسة تحول المنافسون إلى معارضين وبقوة، وهم مدعومون دعما هائلا إعلاميا وماديا، ويشترون الذمم بالأموال، ويفتعلون أحداث العنف، ويحرجون الحكومة؛ لإظهار عجزها.
وكانت سياستهم إشغاله وحكومته لئلا يلتقطوا أنفاسهم؛ خشية أن يظهر تغير إيجابي يكسب به الشعب، فهم كانوا يصنعون الفشل له ثم يرمونه به.
وهذه السياسة الخبيثة تلتقي مع بعض أطروحات أساطين العلمانية في العالم العربي، القاضية بتسليم السلطة في بعض البلاد للإسلاميين، ثم صنع الفشل لهم بحيث تقتنع الشعوب أن الإسلام لا يصلح للسياسة أبدا.
ثانيها: بدا واضحا تأثير الإخوان المسلمين على مرسي في تعيينات الإخوان، ولا سيما تعيينات المحافظين السبعة التي زادت الاحتقان، ودهورت الأوضاع.
ثالثها: أن العلمانيين في مصر وهم يحاولون إسقاط مرسي قد كشفوا عن حقيقتهم بأن عداوتهم مع الإسلام وشريعته؛ ولذا يبشرون بعد سقوطه بأنه لا حجاب ولا لحى ولا مظاهر إسلامية. ومع هذا كله ينضم لهم بعض أدعياء السلفية، ويروجون بلحاهم وعمائمهم لهم، فما أعظم الضلال والانتكاس!!
رابعها: أن طائفتين من المعارضين كفرت بمبادئها التي تهتف بها، مما يدل على أن الهوى وحظوظ النفس كانت وراء ذلك:
الطائفة الأولى: الليبراليون، فقد كفروا بالديمقراطية، وبصناديق الاقتراع، وانقلبوا على شرعيتها التي يؤمنون بها ويدعون إليها، حين لم يقبلوا مرسي من أول يوم أُعلن فيه فوزه في الانتخابات، وظلوا يشغبون عليه إلى هذه الساعة.
أولئك الليبراليون العرب الذين يبكون الاستبداد في الدول الإسلامية، ويركعون بخشوع للصنم الديمقراطي الغربي، الذي يجعل المتنافسين على السلطة يحتضنان بعضا بعد ظهور النتائج، وفوز أحدهما، فلا الفائز يتشفى في الخاسر، ولا الخاسر يكيد للفائز.. كفر الليبراليون العرب بذلك في أول اختبار ديمقراطي حقيقي في مصر.
الطائفة الثانية: أدعياء السلفية الذين صموا الآذان بوجوب طاعة ولاة الأمر، وحشدوا النصوص من الكتاب والسنة في ذلك بمناسبة وغير مناسبة، حتى إن بعضهم اختزل الإسلام كله في هذا الأمر من شدة غلوه فيه، ثم إذا هم ينقلبون على هذه النصوص المحكمة لما كان ولي أمر المسلمين في مصر إخوانيا، مع أن أكثر الأمة المصرية قد رضيته، واستتب له الأمر، فراحوا ينضمون مع العلمانيين والأقباط ضده لإسقاطه.
وإذ تتجه الأحداث إلى التصعيد في تركيا، وإلى التأزيم والانفجار في مصر؛ فإنه من المهم أن نعلم أن الرئيسين أردوغان ومرسي غير مرحب بهما على المستوى الرسمي لا عربيا ولا دوليا، ولو كانت قلوب الشعوب الإسلامية معهما في الجملة؛ وذلك لانتمائهما إلى تيارين إسلاميين، وللخوف من نجاحهما. والغرب كما يمول إسلاما مهجنا ممسوخا مطيعا لا يخرج عن العباءة الغربية سواء كان سلفيا أم إخوانيا أم تنويريا أم تحريريا أم غير ذلك، فإنه سيحارب إسلاما يستقل عن الغرب ونظامه الدولي، ويرفض التبعية، ولا يقبل الإملاءات، وسيتآمر عليه لإزالته، ولن يعدم ألف وسيلة في ذلك ما دام أنه يسيطر على المنظمات الدولية كلها، ويملك ترسانة عسكرية هائلة، ويمسك باقتصاد الدول، ولديه منظومة استخباراتية وتجسسية مهولة، وما يجري في تركيا ومصر لا يخرج عن تحريك غربي عبر عملائه، وشواهد ذلك نأخذها من أفواه اليهود المسيطرين على مفاصل السياسة والاقتصاد في الدول العظمى، ونظامه الدولي الذي أُدخل العالم كله فيه، وسأنقل عن ثلاثة من السياسيين البارزين في إسرائيل، وكلها كلمات مباشرة مفرغة من اليوتيوب:
1- وزيرة العدل الإسرائيلية تسيبي ليفني، ففي كلمة ألقتها في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، قالت: كل قائدٍ ودولة في المنطقة يجب أن يقرروا أن يكونوا إما جزءً من معسكر التطرف والإرهاب، أو معسكر البراجماتية والاعتدال وإذا قررت دولة أو قائد دولة ما طريقا آخر غير طريقنا فسيكون هناك ثمناً لهذا.
وهي تقصد بذلك أوردغان ومرسي لأنهما مؤيدان لحماس التي تعتبرها إسرائيل إرهابية. يوضح ذلك قولها: كنت أتحدث عن مصر مبارك والآن لدينا مصر مرسي، لدينا الآن قادة أضعف بسبب التغيرات والمظاهرات، فالشوارع الآن لديها قوة أكبر ومن الممكن أن نواجه تطرفاً أكبر في أجزاء مختلفة من المنطقة ودور المجتمع الدولي حيوي للغاية، والأمر لا يتعلق فقط بإسرائيل وتركيا وأنا أؤمن أن القادة خاصة الحديثين منهم، يجب أن يفهموا أنه يتوقع منهم أن يختاروا جانبا وينحازوا له... أعلم أنه عندما أتحدث عن تركيا أو عن أردوغان أن الأمر لا يتعلق حول المصالح بل يتعلق بالإيديولوجية التركية.
2- السفير الإسرائيلي السابق في مصر شيمون شامير، يقول: الإدارة والقيادة في مصر مخلصة على الأقل نظريا لمبادئ الجهاد الإسلامي، وهذا خطر وشيك لإسرائيل، هناك تغييرات حدثت في الواقع ليس لدينا أي اتصال بمرسي بينما كان رؤساء الوزراء الإسرائيليين ووزراء الخارجية وغيرهم على اتصال دائم بمبارك.. تغير الوضع، كان بالإمكان التفاوض مع مبارك، لكن الآن لا يوجد اتصال بمرسي... الرحلات الجوية: في ذروة العلاقات كان هناك خمس رحلات للعال من تل أبيب إلى القاهرة، الآن هناك بالكاد رحلة واحدة في الشهر، هناك نكسة..
3- الناشط السياسي الصهيوني المتعصب برنارد هنري ليفي، الذي رشح لرئاسة إسرائيل عام 2011م قال: إذا وصل الإخوان المسلمون للحكم في مصر لن أقول إن الديمقراطية تريدهم فلندع الديمقراطية تعمل.. بالطبع لا.. الديمقراطية ليست فقط انتخابات، إنها قيم.. إذن يجب أن يكون لديك الاثنين... أعتقد أن الإخوان المسلمين بالإيديولوجية الفاشية وتحجيب النساء، وهكذا هم الآن يعملون بقوة دفع الماضي أكثر وأكثر، وهي تمر بعملية تهميش..
يُسأل: كي أفهمك تقول إنه إذا فاز الإخوان في انتخابات شرعية ستشجع الجيش كي يمنعهم من الحصول على السلطة؟!
سوف أشجع على منعهم من الوصول إلى السلطة بكل صورة.. نعم.. طبقا للقيم العالمية.... قلت هذا في الجزائر ولست نادما عليه..اهـ
وسواء استطاعت المعارضتان التركية والمصرية إسقاط أوردغان ومرسي أم لم تستطيعا فإني ألفت الانتباه إلى أمور عدة:
الأول: أن إسقاط الرئيسين التركي والمصري أو الانقلاب عليهما أو تصفيتهما وارد جدا، وإن كانت نسبته في مرسي أعلى، لكن النتيجة الحتمية لإسقاطهما هي جر تركيا ومصر لاضطربات لن تنتهي، وإدخال الشعبين المصري والتركي في نفق مظلم؛ وذلك لشعبيتهما الكبيرة، وضعف المعارضتين التركية والمصرية وتشذرمهما، والله تعالى وحده يعلم ما ستئول إليه الأمور لو حدث ذلك.
ولا أظن أن أنصار الرئيسين سيسكتان لو حدث انقلاب عليهما، وقد صرح بعض المؤيدين لهم ببذل الدماء في سبيل المحافظة على الشرعية وعدم الانقلاب عليها، فجعجعة بعض رموز المعارضة أنه لن يحصل شيء خيانة للشعبين التركي والمصري، وخداع لهما، وإدخالهما في دوامة عنف لن تنتهي إلا بسفك دماء غزيرة جدا.
الثاني: أن الرابح الأكبر من التأزم السياسي في مصر وتركيا، ومن الاضطرابات لو وقعت فيهما هي إيران، التي ترقب المشهد مغتبطة. والثابت أن إيران هي من حرك النصيريين والروافض في تركيا، واستقبل المرشد على خامئني رموز النصيرية وشيوخها الأتراك في إيران وأعطاهم تعليماته.
والثابت أيضا أن إيران تدعم الناصري حمدين صباحي وهو من رموز المعارضين لمرسي، وقد يستغرب البعض: كيف لا زالت إيران تدعم المعارضة المصرية مع أن حكومة مرسي حسنت العلاقات مع إيران، وفتحت مصر للإيرانيين؟!
وجواب ذلك: أن الفوضى في مصر أكثر مصلحة لإيران من اتفاق مع الحكومة المصرية أو مع الإخوان؛ لأن الفوضى في مصر تلغي دور مصر الإقليمي، وتهمش ثقلها العربي، فإذا صاحب ذلك فوضى في تركيا، وضعف إقليمي لتركيا، استفردت إيران بأنها القوة العظمى بشريا وعسكريا في المنطقة. ولا ينافس إيران ولا يفزعها ولا يقف في وجه مشروعاتها الطموحة مثل مصر وتركيا.
الثالث: أن الخاسر الأكبر من حلول الفوضى في تركيا ومصر دول أهل السنة، ولا سيما دول الخليج العربي، فلن يبقى أمام إيران عقبات لابتلاعها إلا أمريكا، ويمكن التفاهم معها وضمان مصالحها وزيادتها، كما تفاهمت أمريكا وإيران على العراق بعد إسقاط صدام، فتكرار تجربة العراق ممكن جدا. لكنه سيكون صعبا جدا في وجود مصر وتركيا قوتين مستقرتين. وقد صرح مرسي أكثر من مرة أن أمن الخليج خط أحمر، وصرح رئيس مجلس الشورى المصري: أن أمن البحرين من أمن الخليج، وأمن الخليج من أمن مصر.
الرابع: أن سقوط أوردغان أو مرسي لا يعني سقوط الإسلام كما يروج لذلك الموتورون من الليبراليين واليساريين والقوميين، بل هي دورة تمحيص جديدة تقوي الإسلام في نفوس الشعوب، ولا سيما أنهم يعلمون بتآمر الأعداء على المشروع السياسي الإسلامي الذي وصل للحكم بطرق الغرب الديمقراطية.
وقد انقلب الجيش التركي على نجم الدين أربكان فكانت عودة الإسلام لتركيا بعد ذلك الانقلاب أقوى، وهي التي جاءت بأردوغان، وألقت الأتاتوركية في مزبلة التاريخ.
الخامس: بينت هذه الأحداث الضخمة في مصر أن التنازع سبب الفشل؛ فتنازع كل من السلفيين والإخوان أدى إلى تهميش الإخوان للسلفيين، وهي جريرة سيندم عليها الإخوان، كما أن معارضة بعض السلفيين لمرسي وانضمامهم للمعارضة أو إحجامهم عن تأييده سيندمون عليه؛ لأن مشروع المعارضة سيبدأ أولا بتصفية السلفيين قبل الإخوان لو تمكنوا، وهذا التنازع سبب للفشل، وقد حذر الله تعالى منه في كتابه الكريم {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
ومع قتامة مشهد التنازع هذا ففيه من الخير أنه كشف معادن الرجال، وأظهر من ولاؤه للإسلام، ومن ولاؤه لنفسه وحظوظها فانضم للمعارضة العلمانية الاستئصالية.
السادس: أن تفرق الإسلاميين في مصر قابله اجتماع خصومهم من المعارضة، فاجتمع الأقباط مع اليساريين والقوميين والليبراليين، فكانوا بمجموعهم قوة أثرت في الشارع، واقتسمت الأدوار، والسفارة الأمريكية في القاهرة كانت تطالب المعارضة بحشد ملايين حتى يستطيع الإمريكان قلع الإسلاميين من كرسي الحكم.
لكن اجتماع الفرقاء -حتى كانوا قوة مؤثرة- مع تفرق الإسلاميين رغم إيلامه فيه دلائل على قوة المد الإسلامي في مصر وتركيا، وأن خصومه لا يقدرون عليه إلا باجتماعهم وتفريق الإسلاميين، وهو ما وقع في مصر، لكن ذلك لن يكون دائما، لأن الفرقاء المجتمعين سيختلفون بعد تحقيق مرادهم من إسقاط الحكم الإسلامي، وسيعودون إلى ضعفهم، كما أن الإسلاميين سيتعلمون من هذه التجربة المريرة، وسيعودون للمشهد السياسي بشكل أقوى وأكثر تأثيرا وترتيبا. كما حصل مع الأتراك أيام أربكان ثم أوردغان.
وقبل سنوات هل كان الإسلاميون في الدول العلمانية يحلمون أن يصل مرشح منهم لمقعد واحد في البرلمان.. وهاهم الآن أكثرية في البرلمانات، ووصلوا إلى رئاسة الجمهوريات، ولم يستطع أعداؤهم النيل منهم إلا بالاجتماع على المكر والكيد والكذب والبهتان، فالمستقبل مشرق للإسلام، رضي من رضي، وغضب من غضب.
وأختم مقالي مذكرا نفسي وأفراد الأمة وأحزابها ودولها: إن مشيئة الله تعالى نافذة، وقدره محتوم، ولن ترده دول ولا أحزاب ولا أفراد مهما عظم جمعهم، وكثرت قوتهم، وتعدد مكرهم، وأن ولاء المسلم يجب أن يكون لله تعالى ولدينه ولو خالف هوى نفسه وحظوظها، وأن معاداة التيارات الإسلامية لحظوظ النفس أو دعما لأحزاب أو دول لن ينجي صاحبه يوم القيامة، ولن يرحمه التاريخ..
فكون الدولة أو الحزب أو الفرد يفقد بعض المكاسب السياسة أو الاقتصادية فيما لو فاز التيار الإسلامي لا يبيح له معاداته، والانضمام مع أعداء الملة والدين ممن يريدون تصفية الإسلام جملة وتفصيلا، كما أن التاريخ لن يرحم من كان كذلك، ولنا عبرة في أخبار السابقين؛ فهرقل عظيم الروم اقتنع بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وكاد أن يسلم لولا أنه خشي على ملكه، فخسر ملكه مع خسارته للإسلام نعوذ بالله من الخذلان، وأبو عبد الله الزغل الغرناطي باع غرناطة لفرناندو قائد الصليبيين بأحمال الجمال ذهبا ومالا، فلم يرحمه التاريخ، وكانت نهايته في المغرب متسولا عند أحد المساجد، قد وضع لوحة على صدره: (ارحموا آخر ملوك الأندلس) هذا غير الجزاء الأخروي.
وفي مقابل ذلك رفض المعتمد بن عباد رحمه الله تعالى أن يتحالف مع القائد الصليبي الأذفونش، وتحالف مع يوسف بن تاشفين مع أنه ترجح لديه أن يوسف بن تاشفين سينزع الملك منه، لكنه آثر أن يخسر الملك على أن يخسر دينه وآخرته، وقال قولته المشهورة التي تستدر الدمع: رعي الجمال مع ابن تاشفين خير من رعي الخنازير مع الأذفونش، ويقيني أني مع ابن تاشفين أرضي الله تعالى، ولو كنت مع الأذفونش فإن يقيني أني أسخط الله تعالى. وها نحن نحمد فعله، ونبكي من مقولته، ونترحم عليه بعد نحو عشرة قرون من مقولته الخالدة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
ونتذكر أيضا رفض السلطان عبد الحميد بيع فلسطين لهرتزل مقابل تسديد الديون لئلا تسقط الدولة العثمانية، ويخسر السلطان عرشه، وكتب رسالة له قال فيها:
انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوما فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة.اهـ
وها نحن ننقل رسالته تلك ونقرؤها، ونغتبط بها بعد أكثر من مئة سنة من كتابتها، وندعو له بسببها، فحفظ المبادئ يبقى ذكره، والعروش تزول. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
فاللهم اجعل ولاءنا لك ولدينك ولعبادك المؤمنين، واحفظ إخواننا في مصر وتركيا بما تحفظ به عبادك الصالحين، وأبطل كيد الكائدين، وامكر بالماكرين، واكفنا شر أعدائنا من الصهاينة والصليبيين والصفويين، إنك سميع مجيب.
إبراهيم بن محمد الحقيل
ومن الناس من يرى أنها ثورات مستقلة، كانت نتيجة طبيعية للظلم والاستبداد، وقهر الناس، والتضييق عليهم في أرزاقهم، وفتح السجون، وتكميم الأفواه، واستشراء الفساد السياسي والإداري والمالي والإعلامي والأخلاقي، حتى فاض غيض الناس عن حده، وانقلب إلى انفجار عارم يقتلع العروش، ويطوح بأصحابها بين قتيل وطريد وسجين.
وأصحاب كلا النظرتين يستدلون لها بأقوال الغربيين واليهود، والذي أظنه أن الثورات العربية ليست من صنع الغرب ولا اليهود، ولكن الغرب واليهود والإيرانيين اجتهدوا في الاستفادة منها، وتوظيفها لمصالحهم، وفرق كبير بين صنع الحدث والاستفادة منه.
وفي تركيا فاز بالانتخابات حزب إسلامي تنويري قريب جدا من العلمانية، ولكن الإسلام في تركيا تنفس بفوزه وبإسقاط الأتاتوركية الاستئصالية، فانتشرت الدعوة الإسلامية، بل وامتدت السلفية، وأيضا حكم هذا الحزب بجدارة متناهية، حصل للمجتمع التركي فيه الرفاه والتنمية.
والمزعج للغرب واليهود في الشأن التركي أمور ثلاثة:
أولها: انحياز السياسة التركية إلى مصلحة الأمة الإسلامية، وظهر ذلك في مواقف أوردغان، منها ما وقع في قمة دافوس 2009م حين تكلم أوردغان بقوة على بيريز وقال: أنتم قتلتم الأطفال في غزة، وحاولوا إسكاته فلم يسكت، ثم قام وتركهم واجتماعهم، ولم يتعود اليهود على هذه اللهجة والتصرف من أحد السياسيين في الدول الإسلامية.
وبعد سنة وأربعة أشهر من هذه الحادثة سار أسطول الحرية من تركيا إلى غزة لكسر الحصار، فاعترضته البحرية الإسرائيلية وأطلقت عليه النيران وقتلت ثمانية أتراك، فطلبت تركيا الاعتذار من إسرائيل فرفضت، فطردت السفير الإسرائيلي، وعلقت الاتفاقات العسكرية، وجمدت مشاريع الطاقة مع إسرائيل، وقبل أشهر اضطرت إسرائيل للاعتذار لتركيا بضغط أمريكي لمصلحة إسرائيل وأمريكا في المنطقة.
وإسرائيل كانت ولا زلت تقدم على الجرائم تلو الجرائم، ولم تتعود على الاعتذار من أحد، وهذه القوة الأردوغانية لم ولن تعجب إسرائيل ولا الغربيين عامة.
ثانيها: الاستقلال بالقرار عن التبعية للدول العظمى، فسياسة أوردغان كانت تعتمد على بناء الفرد التركي، والأمة التركية، بعيدا عن الحاجة لأحد، وقلصت حكومته البطالة إلى أن بلغت أدنى مستوى 8%، في الوقت الذي كانت ترتفع فيه نسب البطالة في أوربا، وسددت قروض تركيا لصندوق النقد الدولي كما أعلن ذلك أوردغان في رجب الماضي، لتصبح تركيا ولأول مرة بلا ديون لصندوق النقد الدولي منذ (52 عاما) ففك أغلالها من الغرب المتسلط، ووثق علاقات تركيا بالدول العربية، وأعاد للأمة التركية هيبتها وقوتها.
ثالثها: إعادة تركيا لحظيرة الإسلام بعد عقود من العلمانية المتطرفة، وذلك بالسماح بالحجاب الذي كان ممنوعا، وبتشجيع التعليم الديني، وتقليص مظاهر العري، ومنع الخمور ليلا، ونحو هذه الإجراءات.
هذه الأمور الثلاثة كانت كافية لتحريك الغرب والصهاينة للأقليات التركية العلمانية والكردية وتحريك إيران للأقلية النصيرية إشغالا لتركيا، وانتقاما لموقفها في سوريا، ثم انضم مع هذه الأقليات الشاذون جنسيا، في مظاهرات لإسقاط الحكومة، أو على الأقل إزعاجها، وإشغالها عن البناء.
ارون شتاين ليبرالي تركي يرأس مركزا لتحديد النسل في اسطنبول يصرح بأن اردوغان فرض أجندة دينية محافظة وقد ظهر ذلك مؤخرا بشكل جلي.
ونشرت مجموعة "فيمن" -وهي مجموعة للمتظاهرت عاريات الصدور- مقطع فيديو مؤيد للمظاهرات في تركيا، ويهتفن قائلات:"مثلكم نحن ضد تحويل تركيا إلى دولة إسلامية" ويدعون إلى إسقاط أردوغان وحكومته.
وتقول إحدى النساء المتظاهرات: "الحكومة تمارس الضغوط في كل شيء: أنجب ثلاثة أطفال لا اثنين فقط، لا تشرب الخمر، لا تدخن، لا تسر في الطريق ويدك في يد حبيبك أو حبيبتك إذا لم تكن العلاقة جدية...أنا ابنة أتاتورك ولا يمكن أن أوافق على ذلك.. نحن كل المحتجين يتشاركون هذه الأفكار لذلك نحن هنا".
إذن المتظاهرون الأتراك لا يهمهم ما بلغته تركيا سياسيا واقتصاديا وعمرانيا، ولا سمعة تركيا التي ارتفعت كثيرا في العهد الأوردغاني، ولا الإصلاح الذي اضطلع به، ولا رفاهية الشعب التركي، ولا تطور البنية التحتية، وازدهار العمران والسياحة في تركيا.. همهم شهواتهم ليس غير.. ويخافون من الأسلمة التي تحد من هذه الشهوات.
أما في الواقع المصري: فالأمر أشد تعقيدا من الواقع التركي؛ لأن أوردغان نجح وثبت نجاحه سياسيا عند الداني والقاصي، أما مرسي فلم يعط فرصة لكي ينجح؛ ولذا اختلف في أدائه المؤيدون والمعارضون:
فالمؤيدون له يرون أنه نجح في مجالات عدة، والمعارضون له يرون أنه ينتقل من فشل إلى فشل، وأن أداءه السياسي ضعيف جدا.
اتهمه المعارضون بأنه يسعى لهيمنة الإخوان على الدولة وابتلاعها، ومصر ليست لقمة سائغة لا للإخوان ولا لغيرهم. واتهموه بأنه خلق عداوات مع دول إقليمية ودولية مؤثرة تسببت في تراجع مصر للوراء، وخنقها اقتصاديا.
وأتهمه بعض السلفيين بأنه قد يبيع الإسلام لأجل السياسة، كما هي براجماتية الإخوان، وعابوا عليه بشدة تحسين العلاقات مع إيران، وفتح مصر للروافض، بينما دافع عنه المؤيدون بأنه كان مضطرا لذلك بسبب خذلان الدول العربية له، بل وتآمر بعضها عليه.
وسواء صحت تهم المعارضين له كلها أو بعضها أم لم تصح، وسواء صح دفاع المؤيدين له عنه أم لم يصح، فإني أرى جملة أمور ثابتة:
أولها: أن التآمر عليه وعلى حكومته بدأ منذ بوادر فوزه في الانتخابات، فالأموال كانت تضخ بكثافة لمنافسيه من دول معادية للإخوان وربما للإسلام. ولما فاز بالرئاسة تحول المنافسون إلى معارضين وبقوة، وهم مدعومون دعما هائلا إعلاميا وماديا، ويشترون الذمم بالأموال، ويفتعلون أحداث العنف، ويحرجون الحكومة؛ لإظهار عجزها.
وكانت سياستهم إشغاله وحكومته لئلا يلتقطوا أنفاسهم؛ خشية أن يظهر تغير إيجابي يكسب به الشعب، فهم كانوا يصنعون الفشل له ثم يرمونه به.
وهذه السياسة الخبيثة تلتقي مع بعض أطروحات أساطين العلمانية في العالم العربي، القاضية بتسليم السلطة في بعض البلاد للإسلاميين، ثم صنع الفشل لهم بحيث تقتنع الشعوب أن الإسلام لا يصلح للسياسة أبدا.
ثانيها: بدا واضحا تأثير الإخوان المسلمين على مرسي في تعيينات الإخوان، ولا سيما تعيينات المحافظين السبعة التي زادت الاحتقان، ودهورت الأوضاع.
ثالثها: أن العلمانيين في مصر وهم يحاولون إسقاط مرسي قد كشفوا عن حقيقتهم بأن عداوتهم مع الإسلام وشريعته؛ ولذا يبشرون بعد سقوطه بأنه لا حجاب ولا لحى ولا مظاهر إسلامية. ومع هذا كله ينضم لهم بعض أدعياء السلفية، ويروجون بلحاهم وعمائمهم لهم، فما أعظم الضلال والانتكاس!!
رابعها: أن طائفتين من المعارضين كفرت بمبادئها التي تهتف بها، مما يدل على أن الهوى وحظوظ النفس كانت وراء ذلك:
الطائفة الأولى: الليبراليون، فقد كفروا بالديمقراطية، وبصناديق الاقتراع، وانقلبوا على شرعيتها التي يؤمنون بها ويدعون إليها، حين لم يقبلوا مرسي من أول يوم أُعلن فيه فوزه في الانتخابات، وظلوا يشغبون عليه إلى هذه الساعة.
أولئك الليبراليون العرب الذين يبكون الاستبداد في الدول الإسلامية، ويركعون بخشوع للصنم الديمقراطي الغربي، الذي يجعل المتنافسين على السلطة يحتضنان بعضا بعد ظهور النتائج، وفوز أحدهما، فلا الفائز يتشفى في الخاسر، ولا الخاسر يكيد للفائز.. كفر الليبراليون العرب بذلك في أول اختبار ديمقراطي حقيقي في مصر.
الطائفة الثانية: أدعياء السلفية الذين صموا الآذان بوجوب طاعة ولاة الأمر، وحشدوا النصوص من الكتاب والسنة في ذلك بمناسبة وغير مناسبة، حتى إن بعضهم اختزل الإسلام كله في هذا الأمر من شدة غلوه فيه، ثم إذا هم ينقلبون على هذه النصوص المحكمة لما كان ولي أمر المسلمين في مصر إخوانيا، مع أن أكثر الأمة المصرية قد رضيته، واستتب له الأمر، فراحوا ينضمون مع العلمانيين والأقباط ضده لإسقاطه.
وإذ تتجه الأحداث إلى التصعيد في تركيا، وإلى التأزيم والانفجار في مصر؛ فإنه من المهم أن نعلم أن الرئيسين أردوغان ومرسي غير مرحب بهما على المستوى الرسمي لا عربيا ولا دوليا، ولو كانت قلوب الشعوب الإسلامية معهما في الجملة؛ وذلك لانتمائهما إلى تيارين إسلاميين، وللخوف من نجاحهما. والغرب كما يمول إسلاما مهجنا ممسوخا مطيعا لا يخرج عن العباءة الغربية سواء كان سلفيا أم إخوانيا أم تنويريا أم تحريريا أم غير ذلك، فإنه سيحارب إسلاما يستقل عن الغرب ونظامه الدولي، ويرفض التبعية، ولا يقبل الإملاءات، وسيتآمر عليه لإزالته، ولن يعدم ألف وسيلة في ذلك ما دام أنه يسيطر على المنظمات الدولية كلها، ويملك ترسانة عسكرية هائلة، ويمسك باقتصاد الدول، ولديه منظومة استخباراتية وتجسسية مهولة، وما يجري في تركيا ومصر لا يخرج عن تحريك غربي عبر عملائه، وشواهد ذلك نأخذها من أفواه اليهود المسيطرين على مفاصل السياسة والاقتصاد في الدول العظمى، ونظامه الدولي الذي أُدخل العالم كله فيه، وسأنقل عن ثلاثة من السياسيين البارزين في إسرائيل، وكلها كلمات مباشرة مفرغة من اليوتيوب:
1- وزيرة العدل الإسرائيلية تسيبي ليفني، ففي كلمة ألقتها في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، قالت: كل قائدٍ ودولة في المنطقة يجب أن يقرروا أن يكونوا إما جزءً من معسكر التطرف والإرهاب، أو معسكر البراجماتية والاعتدال وإذا قررت دولة أو قائد دولة ما طريقا آخر غير طريقنا فسيكون هناك ثمناً لهذا.
وهي تقصد بذلك أوردغان ومرسي لأنهما مؤيدان لحماس التي تعتبرها إسرائيل إرهابية. يوضح ذلك قولها: كنت أتحدث عن مصر مبارك والآن لدينا مصر مرسي، لدينا الآن قادة أضعف بسبب التغيرات والمظاهرات، فالشوارع الآن لديها قوة أكبر ومن الممكن أن نواجه تطرفاً أكبر في أجزاء مختلفة من المنطقة ودور المجتمع الدولي حيوي للغاية، والأمر لا يتعلق فقط بإسرائيل وتركيا وأنا أؤمن أن القادة خاصة الحديثين منهم، يجب أن يفهموا أنه يتوقع منهم أن يختاروا جانبا وينحازوا له... أعلم أنه عندما أتحدث عن تركيا أو عن أردوغان أن الأمر لا يتعلق حول المصالح بل يتعلق بالإيديولوجية التركية.
2- السفير الإسرائيلي السابق في مصر شيمون شامير، يقول: الإدارة والقيادة في مصر مخلصة على الأقل نظريا لمبادئ الجهاد الإسلامي، وهذا خطر وشيك لإسرائيل، هناك تغييرات حدثت في الواقع ليس لدينا أي اتصال بمرسي بينما كان رؤساء الوزراء الإسرائيليين ووزراء الخارجية وغيرهم على اتصال دائم بمبارك.. تغير الوضع، كان بالإمكان التفاوض مع مبارك، لكن الآن لا يوجد اتصال بمرسي... الرحلات الجوية: في ذروة العلاقات كان هناك خمس رحلات للعال من تل أبيب إلى القاهرة، الآن هناك بالكاد رحلة واحدة في الشهر، هناك نكسة..
3- الناشط السياسي الصهيوني المتعصب برنارد هنري ليفي، الذي رشح لرئاسة إسرائيل عام 2011م قال: إذا وصل الإخوان المسلمون للحكم في مصر لن أقول إن الديمقراطية تريدهم فلندع الديمقراطية تعمل.. بالطبع لا.. الديمقراطية ليست فقط انتخابات، إنها قيم.. إذن يجب أن يكون لديك الاثنين... أعتقد أن الإخوان المسلمين بالإيديولوجية الفاشية وتحجيب النساء، وهكذا هم الآن يعملون بقوة دفع الماضي أكثر وأكثر، وهي تمر بعملية تهميش..
يُسأل: كي أفهمك تقول إنه إذا فاز الإخوان في انتخابات شرعية ستشجع الجيش كي يمنعهم من الحصول على السلطة؟!
سوف أشجع على منعهم من الوصول إلى السلطة بكل صورة.. نعم.. طبقا للقيم العالمية.... قلت هذا في الجزائر ولست نادما عليه..اهـ
وسواء استطاعت المعارضتان التركية والمصرية إسقاط أوردغان ومرسي أم لم تستطيعا فإني ألفت الانتباه إلى أمور عدة:
الأول: أن إسقاط الرئيسين التركي والمصري أو الانقلاب عليهما أو تصفيتهما وارد جدا، وإن كانت نسبته في مرسي أعلى، لكن النتيجة الحتمية لإسقاطهما هي جر تركيا ومصر لاضطربات لن تنتهي، وإدخال الشعبين المصري والتركي في نفق مظلم؛ وذلك لشعبيتهما الكبيرة، وضعف المعارضتين التركية والمصرية وتشذرمهما، والله تعالى وحده يعلم ما ستئول إليه الأمور لو حدث ذلك.
ولا أظن أن أنصار الرئيسين سيسكتان لو حدث انقلاب عليهما، وقد صرح بعض المؤيدين لهم ببذل الدماء في سبيل المحافظة على الشرعية وعدم الانقلاب عليها، فجعجعة بعض رموز المعارضة أنه لن يحصل شيء خيانة للشعبين التركي والمصري، وخداع لهما، وإدخالهما في دوامة عنف لن تنتهي إلا بسفك دماء غزيرة جدا.
الثاني: أن الرابح الأكبر من التأزم السياسي في مصر وتركيا، ومن الاضطرابات لو وقعت فيهما هي إيران، التي ترقب المشهد مغتبطة. والثابت أن إيران هي من حرك النصيريين والروافض في تركيا، واستقبل المرشد على خامئني رموز النصيرية وشيوخها الأتراك في إيران وأعطاهم تعليماته.
والثابت أيضا أن إيران تدعم الناصري حمدين صباحي وهو من رموز المعارضين لمرسي، وقد يستغرب البعض: كيف لا زالت إيران تدعم المعارضة المصرية مع أن حكومة مرسي حسنت العلاقات مع إيران، وفتحت مصر للإيرانيين؟!
وجواب ذلك: أن الفوضى في مصر أكثر مصلحة لإيران من اتفاق مع الحكومة المصرية أو مع الإخوان؛ لأن الفوضى في مصر تلغي دور مصر الإقليمي، وتهمش ثقلها العربي، فإذا صاحب ذلك فوضى في تركيا، وضعف إقليمي لتركيا، استفردت إيران بأنها القوة العظمى بشريا وعسكريا في المنطقة. ولا ينافس إيران ولا يفزعها ولا يقف في وجه مشروعاتها الطموحة مثل مصر وتركيا.
الثالث: أن الخاسر الأكبر من حلول الفوضى في تركيا ومصر دول أهل السنة، ولا سيما دول الخليج العربي، فلن يبقى أمام إيران عقبات لابتلاعها إلا أمريكا، ويمكن التفاهم معها وضمان مصالحها وزيادتها، كما تفاهمت أمريكا وإيران على العراق بعد إسقاط صدام، فتكرار تجربة العراق ممكن جدا. لكنه سيكون صعبا جدا في وجود مصر وتركيا قوتين مستقرتين. وقد صرح مرسي أكثر من مرة أن أمن الخليج خط أحمر، وصرح رئيس مجلس الشورى المصري: أن أمن البحرين من أمن الخليج، وأمن الخليج من أمن مصر.
الرابع: أن سقوط أوردغان أو مرسي لا يعني سقوط الإسلام كما يروج لذلك الموتورون من الليبراليين واليساريين والقوميين، بل هي دورة تمحيص جديدة تقوي الإسلام في نفوس الشعوب، ولا سيما أنهم يعلمون بتآمر الأعداء على المشروع السياسي الإسلامي الذي وصل للحكم بطرق الغرب الديمقراطية.
وقد انقلب الجيش التركي على نجم الدين أربكان فكانت عودة الإسلام لتركيا بعد ذلك الانقلاب أقوى، وهي التي جاءت بأردوغان، وألقت الأتاتوركية في مزبلة التاريخ.
الخامس: بينت هذه الأحداث الضخمة في مصر أن التنازع سبب الفشل؛ فتنازع كل من السلفيين والإخوان أدى إلى تهميش الإخوان للسلفيين، وهي جريرة سيندم عليها الإخوان، كما أن معارضة بعض السلفيين لمرسي وانضمامهم للمعارضة أو إحجامهم عن تأييده سيندمون عليه؛ لأن مشروع المعارضة سيبدأ أولا بتصفية السلفيين قبل الإخوان لو تمكنوا، وهذا التنازع سبب للفشل، وقد حذر الله تعالى منه في كتابه الكريم {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
ومع قتامة مشهد التنازع هذا ففيه من الخير أنه كشف معادن الرجال، وأظهر من ولاؤه للإسلام، ومن ولاؤه لنفسه وحظوظها فانضم للمعارضة العلمانية الاستئصالية.
السادس: أن تفرق الإسلاميين في مصر قابله اجتماع خصومهم من المعارضة، فاجتمع الأقباط مع اليساريين والقوميين والليبراليين، فكانوا بمجموعهم قوة أثرت في الشارع، واقتسمت الأدوار، والسفارة الأمريكية في القاهرة كانت تطالب المعارضة بحشد ملايين حتى يستطيع الإمريكان قلع الإسلاميين من كرسي الحكم.
لكن اجتماع الفرقاء -حتى كانوا قوة مؤثرة- مع تفرق الإسلاميين رغم إيلامه فيه دلائل على قوة المد الإسلامي في مصر وتركيا، وأن خصومه لا يقدرون عليه إلا باجتماعهم وتفريق الإسلاميين، وهو ما وقع في مصر، لكن ذلك لن يكون دائما، لأن الفرقاء المجتمعين سيختلفون بعد تحقيق مرادهم من إسقاط الحكم الإسلامي، وسيعودون إلى ضعفهم، كما أن الإسلاميين سيتعلمون من هذه التجربة المريرة، وسيعودون للمشهد السياسي بشكل أقوى وأكثر تأثيرا وترتيبا. كما حصل مع الأتراك أيام أربكان ثم أوردغان.
وقبل سنوات هل كان الإسلاميون في الدول العلمانية يحلمون أن يصل مرشح منهم لمقعد واحد في البرلمان.. وهاهم الآن أكثرية في البرلمانات، ووصلوا إلى رئاسة الجمهوريات، ولم يستطع أعداؤهم النيل منهم إلا بالاجتماع على المكر والكيد والكذب والبهتان، فالمستقبل مشرق للإسلام، رضي من رضي، وغضب من غضب.
وأختم مقالي مذكرا نفسي وأفراد الأمة وأحزابها ودولها: إن مشيئة الله تعالى نافذة، وقدره محتوم، ولن ترده دول ولا أحزاب ولا أفراد مهما عظم جمعهم، وكثرت قوتهم، وتعدد مكرهم، وأن ولاء المسلم يجب أن يكون لله تعالى ولدينه ولو خالف هوى نفسه وحظوظها، وأن معاداة التيارات الإسلامية لحظوظ النفس أو دعما لأحزاب أو دول لن ينجي صاحبه يوم القيامة، ولن يرحمه التاريخ..
فكون الدولة أو الحزب أو الفرد يفقد بعض المكاسب السياسة أو الاقتصادية فيما لو فاز التيار الإسلامي لا يبيح له معاداته، والانضمام مع أعداء الملة والدين ممن يريدون تصفية الإسلام جملة وتفصيلا، كما أن التاريخ لن يرحم من كان كذلك، ولنا عبرة في أخبار السابقين؛ فهرقل عظيم الروم اقتنع بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وكاد أن يسلم لولا أنه خشي على ملكه، فخسر ملكه مع خسارته للإسلام نعوذ بالله من الخذلان، وأبو عبد الله الزغل الغرناطي باع غرناطة لفرناندو قائد الصليبيين بأحمال الجمال ذهبا ومالا، فلم يرحمه التاريخ، وكانت نهايته في المغرب متسولا عند أحد المساجد، قد وضع لوحة على صدره: (ارحموا آخر ملوك الأندلس) هذا غير الجزاء الأخروي.
وفي مقابل ذلك رفض المعتمد بن عباد رحمه الله تعالى أن يتحالف مع القائد الصليبي الأذفونش، وتحالف مع يوسف بن تاشفين مع أنه ترجح لديه أن يوسف بن تاشفين سينزع الملك منه، لكنه آثر أن يخسر الملك على أن يخسر دينه وآخرته، وقال قولته المشهورة التي تستدر الدمع: رعي الجمال مع ابن تاشفين خير من رعي الخنازير مع الأذفونش، ويقيني أني مع ابن تاشفين أرضي الله تعالى، ولو كنت مع الأذفونش فإن يقيني أني أسخط الله تعالى. وها نحن نحمد فعله، ونبكي من مقولته، ونترحم عليه بعد نحو عشرة قرون من مقولته الخالدة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
ونتذكر أيضا رفض السلطان عبد الحميد بيع فلسطين لهرتزل مقابل تسديد الديون لئلا تسقط الدولة العثمانية، ويخسر السلطان عرشه، وكتب رسالة له قال فيها:
انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوما فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة.اهـ
وها نحن ننقل رسالته تلك ونقرؤها، ونغتبط بها بعد أكثر من مئة سنة من كتابتها، وندعو له بسببها، فحفظ المبادئ يبقى ذكره، والعروش تزول. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
فاللهم اجعل ولاءنا لك ولدينك ولعبادك المؤمنين، واحفظ إخواننا في مصر وتركيا بما تحفظ به عبادك الصالحين، وأبطل كيد الكائدين، وامكر بالماكرين، واكفنا شر أعدائنا من الصهاينة والصليبيين والصفويين، إنك سميع مجيب.
إبراهيم بن محمد الحقيل
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى