اللهم اجعلنى مثلها
السبت 03 مايو 2014, 7:29 pm
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فربما سمِع الإنسان الآية والحديث وتأثر بهما إعجابًا مِن موقف أو حبًّا له، وحديثًا للنفس أن يكون كذلك، ثم لا يلبث إذا جاء وقت التطبيق أن يصطدم بأرض الواقع؛ واقع النفس الإنسانية التي تميل إلى الكسل والتواني، وتهرب مِن تحمل الهم والحزن والأذى، وكذا المسئولية، وفي نفس الوقت تتمنى على الله الأماني بالمنازل العالية والدرجات الرفيعة.
وقديمًا كان يستوقفني حديث عظيم ثبت في الصحيحين "وهو حديث الثلاثة الذين تكلموا في المهد": عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ.
فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا.
وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ) قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا، قَالَ: (وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا) (متفق عليه).
وكنتُ أتأمل في هذا الحديث: فوجدتُ أن الشيء المشترك في القصص الثلاث التي أجرى الله فيها هذه الكرامة الخارقة للعادة التي لم تقع في تاريخ البشرية عبر مئات الألوف من السنين إلا مرات معدودة - أنها وقعت كلها تبرئة من الله -تعالى- لأولياء مِن أوليائه اُتهِموا بالزور والبهتان بما هم أبرياء منه.
أما شأن "مريم" -عليها السلام-: فهو شأن عظيم، وبراءتها نشرها الله في العالمين؛ لأجل عرض نبي الله عيسى -عليه السلام-، أحد أولي العزم من الرسل.
و"جريج": أذاع الله براءته على رؤوس بني إسرائيل بعد ما دفعهم الحسد إلى تمني غواية هذا العابد الزاهد -الذي لا ينافسهم في دنياهم- مِن أجل ألا يتعالى عليهم في ظنهم! ولأجل ألا يشعروا في داخل نفوسهم المريضة بألم ناشئ عن تصور إمكانية التخلص مِن أمراضهم وذنوبهم، ولكي يكون مبرر الاستمرار في مستنقع الانحطاط هو أن الجميع كذلك! وأنه لم ينجُ منهم أحد، ولا حتى "جريج".
أما قصة الجبار والجارية: فهي عندي أعجب، فهي جارية مجهولة، في زمن مجهول وبلد مجهولة، لا يعلم الناس تفاصيلها، وأنطق الله الرضيع مع أمه بالدعاء ألا يكون كالجبار وأن يجعله الله مثل الجارية المظلومة، ولم يظهر للناس هذه الكرامة، ولا ذكر لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم توقفوا عن ضربها وسبها، ومع ذلك فشأنها عند الله عظيم؛ يكفيها شرفًا أنها قرينة "مريم" -عليها السلام-، و"جريج" العابد.
ونفس الإنسان لا تكاد تحتمل الاتهام بالباطل والأذى، بل تتمنى سرعة زواله، أما أن يستطيع الإنسان أن يدعو صادقًا: "اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا"؛ فهذا فوق الطاقة إلا مَن أقدره الله عليه!
فهل نستطيع أن تكون طالبين لمثل هذا لرفعة الدرجات، وتكفير السيئات، ونيل الحسنات بالصبر والتوكل واليقين، وشرف التشبه بهؤلاء الأولياء؟!
الأماني سهلة… أما الواقع؛ فمن أصعب ما يكون، وإذا كان مِن الصعب الاحتمال للأذى؛ فكيف بطلبه؟!
لا أجد مِن نفسي قدرة على أن أدعو صادقًا: "اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا"، وحسبي أن أسأل الله اليقين والعافية، ولكن لنعلم درجاتنا، وأين نحن في مسائل المتسابقين إلى الله، وحسبي الله ونعم الوكيل.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فربما سمِع الإنسان الآية والحديث وتأثر بهما إعجابًا مِن موقف أو حبًّا له، وحديثًا للنفس أن يكون كذلك، ثم لا يلبث إذا جاء وقت التطبيق أن يصطدم بأرض الواقع؛ واقع النفس الإنسانية التي تميل إلى الكسل والتواني، وتهرب مِن تحمل الهم والحزن والأذى، وكذا المسئولية، وفي نفس الوقت تتمنى على الله الأماني بالمنازل العالية والدرجات الرفيعة.
وقديمًا كان يستوقفني حديث عظيم ثبت في الصحيحين "وهو حديث الثلاثة الذين تكلموا في المهد": عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ.
فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا.
وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ) قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا، قَالَ: (وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا) (متفق عليه).
وكنتُ أتأمل في هذا الحديث: فوجدتُ أن الشيء المشترك في القصص الثلاث التي أجرى الله فيها هذه الكرامة الخارقة للعادة التي لم تقع في تاريخ البشرية عبر مئات الألوف من السنين إلا مرات معدودة - أنها وقعت كلها تبرئة من الله -تعالى- لأولياء مِن أوليائه اُتهِموا بالزور والبهتان بما هم أبرياء منه.
أما شأن "مريم" -عليها السلام-: فهو شأن عظيم، وبراءتها نشرها الله في العالمين؛ لأجل عرض نبي الله عيسى -عليه السلام-، أحد أولي العزم من الرسل.
و"جريج": أذاع الله براءته على رؤوس بني إسرائيل بعد ما دفعهم الحسد إلى تمني غواية هذا العابد الزاهد -الذي لا ينافسهم في دنياهم- مِن أجل ألا يتعالى عليهم في ظنهم! ولأجل ألا يشعروا في داخل نفوسهم المريضة بألم ناشئ عن تصور إمكانية التخلص مِن أمراضهم وذنوبهم، ولكي يكون مبرر الاستمرار في مستنقع الانحطاط هو أن الجميع كذلك! وأنه لم ينجُ منهم أحد، ولا حتى "جريج".
أما قصة الجبار والجارية: فهي عندي أعجب، فهي جارية مجهولة، في زمن مجهول وبلد مجهولة، لا يعلم الناس تفاصيلها، وأنطق الله الرضيع مع أمه بالدعاء ألا يكون كالجبار وأن يجعله الله مثل الجارية المظلومة، ولم يظهر للناس هذه الكرامة، ولا ذكر لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم توقفوا عن ضربها وسبها، ومع ذلك فشأنها عند الله عظيم؛ يكفيها شرفًا أنها قرينة "مريم" -عليها السلام-، و"جريج" العابد.
ونفس الإنسان لا تكاد تحتمل الاتهام بالباطل والأذى، بل تتمنى سرعة زواله، أما أن يستطيع الإنسان أن يدعو صادقًا: "اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا"؛ فهذا فوق الطاقة إلا مَن أقدره الله عليه!
فهل نستطيع أن تكون طالبين لمثل هذا لرفعة الدرجات، وتكفير السيئات، ونيل الحسنات بالصبر والتوكل واليقين، وشرف التشبه بهؤلاء الأولياء؟!
الأماني سهلة… أما الواقع؛ فمن أصعب ما يكون، وإذا كان مِن الصعب الاحتمال للأذى؛ فكيف بطلبه؟!
لا أجد مِن نفسي قدرة على أن أدعو صادقًا: "اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا"، وحسبي أن أسأل الله اليقين والعافية، ولكن لنعلم درجاتنا، وأين نحن في مسائل المتسابقين إلى الله، وحسبي الله ونعم الوكيل.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى