التوسع الصليبى بعد سقوط بيت المقدس
الجمعة 17 ديسمبر 2010, 4:09 pm
التوسع الصليبي والواقع الإسلامي
بَعْدَ سقوط بيت المقدس، هل تحقَّق حُلم الصليبيين وهدفهم، ومن ثَمَّ يَكُفُّون عن التوسُّع والاحتلال؟!
إنَّ نَفْسَ الإنسان تُحِبُّ دومًا التملُّك والتكاثر؛ يقول الله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، ويقول رسول الله: "لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ"[1]. فهذه رَغَبَات الإنسان بصفة عامَّة، فما بالُكم برغبات قُسَاة القلب، غلاظِ الطِّباع كهؤلاء الهمج الذين جاءوا من غرب أوربا؟!
لقد بدأ الصليبيون فورًا في النظر إلى ما حولهم من مدن وقُرًى ليتوسَّعوا أكثر وأكثر، والحُجَّة هي تأمين المدينة المقدَّسة، وحماية الطرق المؤدِّيَة إليها!!
والواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأُمَّة جعل هذه الأحلام الصليبيَّة مؤلمة، فالمسلمون هنا وهناك افتقروا إلى زعامة مخلِصة تجمعهم على الكتاب والسُّنَّة، وافتقروا إلى وَحْدَةٍ تجمع شملهم، وافتقروا أيضًا إلى رُوحٍ جهاديَّة وحُبٍّ للموت في سبيل الله، فأذهلتهم مذابحُ القدس، وقرَّرُوا فعل أي شيء ليتجنَّبُوا الموت، ومن ثَمَّ أُطْلِقَتْ أيدي الصليبيين في فلسطين.
سقوط المدن الفلسطينية
وكانت أوَّل المدن الفلسطينيَّة سقوطًا بعد القدس هي مدينة نابُلُس، التي تقع على بُعْدِ خمسين كيلو مترًا فقط شمال القدس، وكان سقوطها مزريًا؛ حيث جاء أهلها بأنفُسُهم لتسليم المدينة للصليبيين، فتَسَلَّمَهَا تانكرد في (492هـ) أواخر يوليو 1099م[2].
المواجهة العبيدية الصليبية
وفي الرابع من أغسطس عام 1099م -أي بعد سقوط بيت المقدس بعشرين يومًا- وَصَل الجيش العبيديّ إلى ميناء عَسْقَلان لقتال الصليبيين[3]، واكتشف الصليبيون أمر الجيش وهو ما زال بالميناء، فأسرعت القوَّات الصليبيَّة من كل مكان، وحدث قتال كبير بين الجيشين، وخاصَّة أنَّ كلاًّ منهما يقوده الزعيم الأكبر في كل جيش؛ فجيش الصليبيين على رأسه جودفري بوايون، وجيش العبيديين على رأسه الأفضل شاهنشاه بن بدر الجَمَالِيّ[4]، وهو الوزير الأوَّل في مصر والمتحكِّم في الأمور بها، وهو أعلى سلطةً وأَجَلُّ من الخليفة العبيديّ نفسه.
دارت الموقعة في (492هـ) الثاني عشر من أغسطس عام 1099م، وما هي إلاَّ لحظات قليلة حتى تشتَّت شمل العبيديين، وقُتِلَ منهم العددُ الكبير، وفرَّ الأفضلُ الجَمَالِيُّ مع بعض مقرَّبيه على سفينة راجعًا إلى مصر، وكانت هذه المعركة خاتمة للمحاولات الجادَّة من الدولة العبيديَّة لاسترداد المفقود من أرض فلسطين[5].
التوسع الصليبي بين جودفري وريمون
إننا نحِبُّ أن نتوقَّف وقفة مع ما حدث بعد ذلك من الصليبيين تجاه مدينة عَسْقَلان المُسْلِمَة؛ لنرى طبيعة العَلاقة بين زعماء الجيش الصليبي وأهداف القتال والغزو، ولنعرف أيضًا طبيعة المسلمين في ذلك الوقت.
لقد حاصر الصليبيون فورًا مدينة عَسْقَلان مستغِلِّينَ الحالة المعنويَّة العالية لجنودهم، والإحباط الذي أُصِيبَ به المسلمون، وقد أُسْقِطَ في يَدِ المُسْلِمِينَ، فَهُمْ لا طاقة لهم بجودفري وجنوده، فماذا يفعلون؟!
لقد ترامت الأنباءُ إلى داخل أسوار عَسْقَلان أنَّ الذي أخرج الحامية العبيديَّة من داخل بيت المقدس بأمان هو العهد الذي أعطاه إيَّاهم ريمون الرابع أثناء عملية الغزو[6]، ولعلَّه قد ترامى إليهم أيضًا أنَّ هناك خلافًا بين جودفري وريمون على زعامة الصليبيين، وقد يكون ريمون أعطى قبل ذلك الأمان لجنود الحامية نكايةً في جودفري، وكنوع من إثبات الوجود في داخل الجيش الصليبي.
ومن ثَمَّ فقد رأى أهل عسقلان أنهم لو طلبوا الأمان من ريمون الرابع فإنَّ هذا سيكون أوقع[7]، حيث سَيَتَحَمَّس ريمون لمعارضة جودفري، ولكسب يَدٍ عند أهل عَسْقَلان، فهو رجل يبحث عن إمارة له، فلماذا لا تكون عَسْقلان هي إمارته، إذا كان سيُعْطيهم وعدًا بالحياة!
هكذا فكَّر أهل عسقلان!
ولقد صدق حَدْسُهم!
لقد تحمَّس ريمون لقضيَّة أهل عَسْقَلان، وتناقش فورًا مع جودفري لفكِّ الحصار عن عسقلان، لكن جودفري أيقن أنَّ ريمون لا يريد رفع الحصار عطفًا على أهل عسقلان، أو رغبة في إظهار محاسن الأخلاق، إنما أراد ذلك لتكون عسقلان إمارة له، وهذا يتعارض مع أهداف جودفري نفسه، فهو يريد لميناء عسقلان أن يكون تابعًا لبيت المقدس، حتى يكون له مخرجٌ كبير على البحر الأبيض المتوسط يستوعب الإمدادات البشريَّة والعسكريَّة والغذائيَّة القادمة لمدينة القدس الداخليَّة، كما يُريد موانئ تِجَارِيَّة تُنْعِشُ اقتصاديَّات بيت المقدس؛ لذلك رفض جودفري صراحة أنْ يُعْطِيَ عسقلان لريمون، وغضب ريمون جدًّا لدرجة أنه قرَّر أنْ يَنْسَحِبَ بجنوده من الحصار، مُفَضِّلاً أن تبقى عسقلان في يَدِ المسلمين على أنْ يأخذها جودفري بوايون[8]!!
وهذا ما حدث بالفعل!
لقد ضعفت قوَّة الحصار عن المدينة بعد انسحاب ريمون، بل إنَّ ريمون أسرع إلى مدينة أخرى هي أُرْسُوف؛ ليقوم معها بنفس المهمَّة آملاً أن تكون أُرْسُوف هي إمارته، فأسرع خلفه جودفري تاركًا عَسْقَلان، وكرَّر نفس الحوار مع ريمون، فجودفري -الطيب كما يدَّعون، والتقيُّ كما يصفون- يُريد لأُرْسُوف أيضًا أن تكون تابعة له[9]!
واشتدَّ غضب ريمون، وإن كان لم يستطع أن يفعل شيئًا، كذلك شَعَرَ بقيَّة الأمراء أنَّ هذا الفكر الاستحواذي الذي يتعامل به جودفري سيمنعهم من تنفيذ أي طموح، أو امتلاك أي شيء، وخاصةً أنهم أضعف من ريمون؛ ولذلك فقد قرَّر الجميع أن يتركوا الساحة خالية لجودفري!
أما ريمون فقد توجَّه إلى الشمال في مناطق لُبْنَان والشام؛ ليبحث له عن مُلْكٍ بجوار أنطاكية، وأمَّا بقيَّة الأمراء -وعلى رأسهم روبرت النورماني، وروبرت دي فلاندر- فقد قرَّروا العودة إلى فرنسا[10]، ولا شكَّ أنهم حُمِّلوا في عودتهم بكَمِّيَّات هائلة من الأموال والغنائم يُعَوِّضهم عن ترك الساحة بكاملها لجودفري وجنوده.
وهكذا لم يبقَ مع جودفري من زعماء الحملة الصليبيَّة إلا تانكرد النورماني، الذي آثر أن يبقى مع جودفري ولا يذهب إلى خاله بوهيموند؛ حيث يُمْكِنُ له في فلسطين أنْ يستحوذَ على إمارة هنا أو هناك، ولو تحت حكم جودفري العامِّ، بينما سيكون الحُكْمُ في أنطاكية مقصورًا على خاله فقط!! إنها المصالح الشخصيَّة فقط هي التي تحكم تصرُّف كل زعيم من زعماء الحملة الصليبيَّة!
ولم يُخَيِّب جودفري ظنَّ تانكرد، إذ أَمَرَهُ أنْ يحتلَّ إقليم الجَلِيل، فإن وُفِّق في ذلك كان واليًا عليه، وتحمَّس تانكرد جدًّا للمهمَّة[11]، ولم تكن مسألةً صعبةً، فهو مع قلَّة رجاله، وضعف إمكانياته بعدَ رحيل العديد من الأمراء والجنود إلاَّ أنَّ أهل الإقليم كانوا أضعف، حتى إنَّه احتلَّه في فترة وجيزة[12]، وأيضًا احتلَّ مدينة طبرية في سهولة بعد أن هرب منها أهلها[13]، وفَعَلَ الشيء نفسه في مدينة بيسان في الجنوب الشرقي لإقليم الجَلِيل، وهكذا صار إقليم الجَلِيل تابعًا للصليبيين وتحت إمارة تانكرد، على أن هذا الإقليم صار تابعًا لبيت المقدس وليس مستقلاًّ بذاته[14].
وهكذا صارت عدَّة مُدُنٍ من مُدُن فلسطين تحت سيطرة الصليبيين، منها بيت المقدس ويافا واللُّدُّ والرملة ونابُلُس وبَيْسَان وطبرية[15]، وفي نفس الوقت لم يستطع الصليبيون في هذه المرحلة أن يحتلُّوا عكَّا أو عَسْقَلان أو أُرْسُوف، ولم يستطيعوا دخول لُبْنَان، حيث بقِيَت طرابُلُس وبَيْرُوت وصيدا في أيدي المسلمين[16].
بين التاريخ والواقع
ومن الجدير بالذِّكر أنْ نعلم أنَّ القوَّة الصليبيَّة في كل هذه المدن الفلسطينيَّة المحتلَّة -بما فيها بيت المقدس- كانت ضعيفة جدًّا؛ لتَفَرُّقِ الحاميات الصليبيَّة بين هذه المدن الكثيرة، ولرجوع أعداد كبيرة من الجُنْدِ إلى فلسطين، وأيضًا لانسحاب ريمون بجيشه إلى الشمال بعيدًا عن فلسطين وعن نفوذ جودفري[17]، وعلى الرغم من هذا الضعف إلاَّ أنَّ المقاومة الإسلاميَّة آنذاك كانت أضعف؛ حيث هُزِمَ المسلمون نفسيًّا قبل أن يُهْزَمُوا عسكريًّا، وشعروا أنَّ قتال الصليبيين ضربٌ من المستحيل، وهذا أدَّى إلى استقرار الصليبيين على الرغم من قلَّة أعدادهم!
وقبل أن تتعجَّب لعلَّك ينبغي أنْ تُفَكِّرَ في بقاء اليهود في زماننا الآن بأعدادهم القليلة جدًّا وسط هذا الكمِّ الضخم الهائل من المسلمين؛ لندرك جميعًا أن القضيَّة ليست قضيَّة أعداد وعُدَّة، ولكنها قضيَّة دين وعقيدة وفكر ورُوح.
د. راغب السرجاني
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال (6072). ومسلم: كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا (1048)، والترمذي (2337)، وأحمد (12250)، والدارمي (2778).
[2] Gesta Francorum, p. 209 & Guibert de Nogent, p304.
[3] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص137.
[4] Gesta Francorum, p. 209.
[5] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص137.
[6] Setton: op. citn1. p.837.
[7] Runciman: op. cit. 1, p. 297.
[8] Raoul de cam (Hist. Occid 111), p. 703.
[9] Albert d`Alix, p. 498.
[10] Setevenson: op. cit., p. 36.
[11] Raoul de Caen p. 703 & Guillaume de Tyr, 1, p. 384.
[12] Runciman: op. cit. 1, p. 304.
[13] Albert d`Aix, pp. 217-218.
[14] Guillaume de Tyr, 1, p. 384.
[15] قاسم عبده قا: ماهية الحروب الصليبية ص130.
[16] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 181 & Albert d`Aix, pp. 507-511.
[17] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/212.
بَعْدَ سقوط بيت المقدس، هل تحقَّق حُلم الصليبيين وهدفهم، ومن ثَمَّ يَكُفُّون عن التوسُّع والاحتلال؟!
إنَّ نَفْسَ الإنسان تُحِبُّ دومًا التملُّك والتكاثر؛ يقول الله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، ويقول رسول الله: "لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ"[1]. فهذه رَغَبَات الإنسان بصفة عامَّة، فما بالُكم برغبات قُسَاة القلب، غلاظِ الطِّباع كهؤلاء الهمج الذين جاءوا من غرب أوربا؟!
لقد بدأ الصليبيون فورًا في النظر إلى ما حولهم من مدن وقُرًى ليتوسَّعوا أكثر وأكثر، والحُجَّة هي تأمين المدينة المقدَّسة، وحماية الطرق المؤدِّيَة إليها!!
والواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأُمَّة جعل هذه الأحلام الصليبيَّة مؤلمة، فالمسلمون هنا وهناك افتقروا إلى زعامة مخلِصة تجمعهم على الكتاب والسُّنَّة، وافتقروا إلى وَحْدَةٍ تجمع شملهم، وافتقروا أيضًا إلى رُوحٍ جهاديَّة وحُبٍّ للموت في سبيل الله، فأذهلتهم مذابحُ القدس، وقرَّرُوا فعل أي شيء ليتجنَّبُوا الموت، ومن ثَمَّ أُطْلِقَتْ أيدي الصليبيين في فلسطين.
سقوط المدن الفلسطينية
وكانت أوَّل المدن الفلسطينيَّة سقوطًا بعد القدس هي مدينة نابُلُس، التي تقع على بُعْدِ خمسين كيلو مترًا فقط شمال القدس، وكان سقوطها مزريًا؛ حيث جاء أهلها بأنفُسُهم لتسليم المدينة للصليبيين، فتَسَلَّمَهَا تانكرد في (492هـ) أواخر يوليو 1099م[2].
المواجهة العبيدية الصليبية
وفي الرابع من أغسطس عام 1099م -أي بعد سقوط بيت المقدس بعشرين يومًا- وَصَل الجيش العبيديّ إلى ميناء عَسْقَلان لقتال الصليبيين[3]، واكتشف الصليبيون أمر الجيش وهو ما زال بالميناء، فأسرعت القوَّات الصليبيَّة من كل مكان، وحدث قتال كبير بين الجيشين، وخاصَّة أنَّ كلاًّ منهما يقوده الزعيم الأكبر في كل جيش؛ فجيش الصليبيين على رأسه جودفري بوايون، وجيش العبيديين على رأسه الأفضل شاهنشاه بن بدر الجَمَالِيّ[4]، وهو الوزير الأوَّل في مصر والمتحكِّم في الأمور بها، وهو أعلى سلطةً وأَجَلُّ من الخليفة العبيديّ نفسه.
دارت الموقعة في (492هـ) الثاني عشر من أغسطس عام 1099م، وما هي إلاَّ لحظات قليلة حتى تشتَّت شمل العبيديين، وقُتِلَ منهم العددُ الكبير، وفرَّ الأفضلُ الجَمَالِيُّ مع بعض مقرَّبيه على سفينة راجعًا إلى مصر، وكانت هذه المعركة خاتمة للمحاولات الجادَّة من الدولة العبيديَّة لاسترداد المفقود من أرض فلسطين[5].
التوسع الصليبي بين جودفري وريمون
إننا نحِبُّ أن نتوقَّف وقفة مع ما حدث بعد ذلك من الصليبيين تجاه مدينة عَسْقَلان المُسْلِمَة؛ لنرى طبيعة العَلاقة بين زعماء الجيش الصليبي وأهداف القتال والغزو، ولنعرف أيضًا طبيعة المسلمين في ذلك الوقت.
لقد حاصر الصليبيون فورًا مدينة عَسْقَلان مستغِلِّينَ الحالة المعنويَّة العالية لجنودهم، والإحباط الذي أُصِيبَ به المسلمون، وقد أُسْقِطَ في يَدِ المُسْلِمِينَ، فَهُمْ لا طاقة لهم بجودفري وجنوده، فماذا يفعلون؟!
لقد ترامت الأنباءُ إلى داخل أسوار عَسْقَلان أنَّ الذي أخرج الحامية العبيديَّة من داخل بيت المقدس بأمان هو العهد الذي أعطاه إيَّاهم ريمون الرابع أثناء عملية الغزو[6]، ولعلَّه قد ترامى إليهم أيضًا أنَّ هناك خلافًا بين جودفري وريمون على زعامة الصليبيين، وقد يكون ريمون أعطى قبل ذلك الأمان لجنود الحامية نكايةً في جودفري، وكنوع من إثبات الوجود في داخل الجيش الصليبي.
ومن ثَمَّ فقد رأى أهل عسقلان أنهم لو طلبوا الأمان من ريمون الرابع فإنَّ هذا سيكون أوقع[7]، حيث سَيَتَحَمَّس ريمون لمعارضة جودفري، ولكسب يَدٍ عند أهل عَسْقَلان، فهو رجل يبحث عن إمارة له، فلماذا لا تكون عَسْقلان هي إمارته، إذا كان سيُعْطيهم وعدًا بالحياة!
هكذا فكَّر أهل عسقلان!
ولقد صدق حَدْسُهم!
لقد تحمَّس ريمون لقضيَّة أهل عَسْقَلان، وتناقش فورًا مع جودفري لفكِّ الحصار عن عسقلان، لكن جودفري أيقن أنَّ ريمون لا يريد رفع الحصار عطفًا على أهل عسقلان، أو رغبة في إظهار محاسن الأخلاق، إنما أراد ذلك لتكون عسقلان إمارة له، وهذا يتعارض مع أهداف جودفري نفسه، فهو يريد لميناء عسقلان أن يكون تابعًا لبيت المقدس، حتى يكون له مخرجٌ كبير على البحر الأبيض المتوسط يستوعب الإمدادات البشريَّة والعسكريَّة والغذائيَّة القادمة لمدينة القدس الداخليَّة، كما يُريد موانئ تِجَارِيَّة تُنْعِشُ اقتصاديَّات بيت المقدس؛ لذلك رفض جودفري صراحة أنْ يُعْطِيَ عسقلان لريمون، وغضب ريمون جدًّا لدرجة أنه قرَّر أنْ يَنْسَحِبَ بجنوده من الحصار، مُفَضِّلاً أن تبقى عسقلان في يَدِ المسلمين على أنْ يأخذها جودفري بوايون[8]!!
وهذا ما حدث بالفعل!
لقد ضعفت قوَّة الحصار عن المدينة بعد انسحاب ريمون، بل إنَّ ريمون أسرع إلى مدينة أخرى هي أُرْسُوف؛ ليقوم معها بنفس المهمَّة آملاً أن تكون أُرْسُوف هي إمارته، فأسرع خلفه جودفري تاركًا عَسْقَلان، وكرَّر نفس الحوار مع ريمون، فجودفري -الطيب كما يدَّعون، والتقيُّ كما يصفون- يُريد لأُرْسُوف أيضًا أن تكون تابعة له[9]!
واشتدَّ غضب ريمون، وإن كان لم يستطع أن يفعل شيئًا، كذلك شَعَرَ بقيَّة الأمراء أنَّ هذا الفكر الاستحواذي الذي يتعامل به جودفري سيمنعهم من تنفيذ أي طموح، أو امتلاك أي شيء، وخاصةً أنهم أضعف من ريمون؛ ولذلك فقد قرَّر الجميع أن يتركوا الساحة خالية لجودفري!
أما ريمون فقد توجَّه إلى الشمال في مناطق لُبْنَان والشام؛ ليبحث له عن مُلْكٍ بجوار أنطاكية، وأمَّا بقيَّة الأمراء -وعلى رأسهم روبرت النورماني، وروبرت دي فلاندر- فقد قرَّروا العودة إلى فرنسا[10]، ولا شكَّ أنهم حُمِّلوا في عودتهم بكَمِّيَّات هائلة من الأموال والغنائم يُعَوِّضهم عن ترك الساحة بكاملها لجودفري وجنوده.
وهكذا لم يبقَ مع جودفري من زعماء الحملة الصليبيَّة إلا تانكرد النورماني، الذي آثر أن يبقى مع جودفري ولا يذهب إلى خاله بوهيموند؛ حيث يُمْكِنُ له في فلسطين أنْ يستحوذَ على إمارة هنا أو هناك، ولو تحت حكم جودفري العامِّ، بينما سيكون الحُكْمُ في أنطاكية مقصورًا على خاله فقط!! إنها المصالح الشخصيَّة فقط هي التي تحكم تصرُّف كل زعيم من زعماء الحملة الصليبيَّة!
ولم يُخَيِّب جودفري ظنَّ تانكرد، إذ أَمَرَهُ أنْ يحتلَّ إقليم الجَلِيل، فإن وُفِّق في ذلك كان واليًا عليه، وتحمَّس تانكرد جدًّا للمهمَّة[11]، ولم تكن مسألةً صعبةً، فهو مع قلَّة رجاله، وضعف إمكانياته بعدَ رحيل العديد من الأمراء والجنود إلاَّ أنَّ أهل الإقليم كانوا أضعف، حتى إنَّه احتلَّه في فترة وجيزة[12]، وأيضًا احتلَّ مدينة طبرية في سهولة بعد أن هرب منها أهلها[13]، وفَعَلَ الشيء نفسه في مدينة بيسان في الجنوب الشرقي لإقليم الجَلِيل، وهكذا صار إقليم الجَلِيل تابعًا للصليبيين وتحت إمارة تانكرد، على أن هذا الإقليم صار تابعًا لبيت المقدس وليس مستقلاًّ بذاته[14].
وهكذا صارت عدَّة مُدُنٍ من مُدُن فلسطين تحت سيطرة الصليبيين، منها بيت المقدس ويافا واللُّدُّ والرملة ونابُلُس وبَيْسَان وطبرية[15]، وفي نفس الوقت لم يستطع الصليبيون في هذه المرحلة أن يحتلُّوا عكَّا أو عَسْقَلان أو أُرْسُوف، ولم يستطيعوا دخول لُبْنَان، حيث بقِيَت طرابُلُس وبَيْرُوت وصيدا في أيدي المسلمين[16].
بين التاريخ والواقع
ومن الجدير بالذِّكر أنْ نعلم أنَّ القوَّة الصليبيَّة في كل هذه المدن الفلسطينيَّة المحتلَّة -بما فيها بيت المقدس- كانت ضعيفة جدًّا؛ لتَفَرُّقِ الحاميات الصليبيَّة بين هذه المدن الكثيرة، ولرجوع أعداد كبيرة من الجُنْدِ إلى فلسطين، وأيضًا لانسحاب ريمون بجيشه إلى الشمال بعيدًا عن فلسطين وعن نفوذ جودفري[17]، وعلى الرغم من هذا الضعف إلاَّ أنَّ المقاومة الإسلاميَّة آنذاك كانت أضعف؛ حيث هُزِمَ المسلمون نفسيًّا قبل أن يُهْزَمُوا عسكريًّا، وشعروا أنَّ قتال الصليبيين ضربٌ من المستحيل، وهذا أدَّى إلى استقرار الصليبيين على الرغم من قلَّة أعدادهم!
وقبل أن تتعجَّب لعلَّك ينبغي أنْ تُفَكِّرَ في بقاء اليهود في زماننا الآن بأعدادهم القليلة جدًّا وسط هذا الكمِّ الضخم الهائل من المسلمين؛ لندرك جميعًا أن القضيَّة ليست قضيَّة أعداد وعُدَّة، ولكنها قضيَّة دين وعقيدة وفكر ورُوح.
د. راغب السرجاني
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال (6072). ومسلم: كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا (1048)، والترمذي (2337)، وأحمد (12250)، والدارمي (2778).
[2] Gesta Francorum, p. 209 & Guibert de Nogent, p304.
[3] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص137.
[4] Gesta Francorum, p. 209.
[5] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص137.
[6] Setton: op. citn1. p.837.
[7] Runciman: op. cit. 1, p. 297.
[8] Raoul de cam (Hist. Occid 111), p. 703.
[9] Albert d`Alix, p. 498.
[10] Setevenson: op. cit., p. 36.
[11] Raoul de Caen p. 703 & Guillaume de Tyr, 1, p. 384.
[12] Runciman: op. cit. 1, p. 304.
[13] Albert d`Aix, pp. 217-218.
[14] Guillaume de Tyr, 1, p. 384.
[15] قاسم عبده قا: ماهية الحروب الصليبية ص130.
[16] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 181 & Albert d`Aix, pp. 507-511.
[17] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/212.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى