الفرق بين الحكم والفتوى وتطبيقاته على واقعنا السياسي
الجمعة 14 فبراير 2014, 2:43 pm
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كثرتْ التساؤلات داخل قواعد "الدعوة السلفية" حول بعض المواقف التي اتخذتها الدعوة منذ "25 يناير" وحتى الآن، والتي تبدو مخالفة لمواقف تم اتخاذها قبل "25 يناير"؛ فيتساءل البعض: هل مسَّتْ هذه الاجتهادات بعض الثوابت أم كانت كلها متعلقة بالمتغيرات؟
وللإجابة على هذا التساؤل نحتاج إلى تقرير بعض الأمور نعرضها باختصار نرجو ألا يكون مخلاً بهذه الأمور:
1- الفرق بيْن الحكم والفتوى:
- فالحكم الشرعي: "عبارة عن خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين".
- والفتوى: "ذكر الحكم المسئول عنه للسائل".
فالحكم الشرعي هو: الحكم المتعلق بأفعال العباد على وجه العموم من غير التفات إلى واقع معين يرتبط به الحكم: كالقول بوجوب الصلاة، وحرمة شرب الخمر، وهكذا...
والفتوى هي: تطبيق الحكم الشرعي على الواقع، ولا تكون الفتوى صحيحة إلا إذا كان الحكم الشرعي منطبقًا على الواقع انطباقًا صحيحًا.
- يقول ابن القيم -رحمه الله- في بيان علاقة الفتوى بالحكم الشرعي: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر".
- وعندما استُفتي ابن تيمية -رحمه الله- في قتال التتار بيَّن ذلك الارتباط وأفتى بقوله: "نعم يجب قتال هؤلاء، بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين، وهذا مبني على أصلين: أحدهما المعرفة بحالهم. والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم".
- ومن أمثلة ذلك: أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، وأن التيمم يشرع بدلاً عنها في حالة فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله، وأن فاقد الطهورين تسقط عنه الطهارة.
كل هذه أحكام مجردة، وعند تطبيقها على واقع معين يُقال للبعض: يجب عليك الوضوء، ويقال للآخر: يجب عليك التيمم، ويقال للثالث: لا يجب عليك لا هذا ولا ذاك.
ومن هنا، فقد وقف العلماء عند نصوص الشرع التي خوطب بها أفراد معينون؛ لكي يحققوا مناط خطاب الله الذي خوطب به هؤلاء، وقرروا قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، ومن أمثلتها: "قصة المجادلة".
وأما ما كان الخطاب فيه موجهًا إلى شخص مكلف بعينه؛ فقرروا عمومه أيضًا من باب تساوي المكلفين في خطاب الشرع؛ ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
وأما ما تبين فيه أن الخطاب وجِّه إلى مكلف بعينه لعلة وُجدت فيه؛ فقد اجتهد العلماء في تجريد ذلك الحكم بعلته لتعميمه على مَن يشبهونه، ويظهر ذلك جليًّا عند اختلاف الخطاب الموجَّه مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- في واقعتين متعلقتين بذات الموضوع، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) (متفق عليه)، وقال في موطن آخر: (أفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ) (رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وصححه الألباني)، فيحمل ذلك على اختلاف حال السائل.
وورد أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- اختلاف فتوى القبلة للصائم بين الشاب والشيخ الكبير، وقد أشارت عائشة -رضي الله عنها- إلى الضابط في الباب في قولها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ) (متفق عليه).
2- ثبات الأحكام وتغير الفتاوى:
إذن فالمصدر الرئيسي لاختلاف الفتاوى في مسألة واحدة يأتي من البحث في الشروط والموانع، وأحوال الاختيار وأحوال الاضطرار.
ومنه نأخذ: أن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير؛ لأنها خطاب الله، ولا يملك أحد أن يغيره؛ وإلا لأصبح هذا نسخًا أو تبديلاً!
وأما الفتاوى: فهي متغيرة، ولكن في حدود إسقاط الحكم على الواقع، ومِن ثَمَّ فلا يُتصور أن تتغير الفتوى في واقعتين متطابقتين أو بينهما فرق غير مؤثر؛ فلن يُلتفت في المثال السابق -الطهارة- إلا إلى وجود الماء والقدرة على استعماله، وما عدا ذلك من الأحوال؛ فلا يتصور أن تتأثر به الفتوى في هذا المثال.
3- الفتاوى التي تعم بها البلوى واشتباهها بالأحكام:
توجد بعض الفتاوى التي تعم بها البلوى، وتنطبق على عدد كبير من المكلفين مما يجعلها تُتداول كما لو كانت أحكامًا؛ بينما هي في حقيقتها تطبيق للحكم على صورة عامة.
- ومن أوضح أمثلتها: عدم تطبيق عمر -رضي الله عنه- لحد السرقة في عام "الرمادة"، فالأمر هو تطبيق لحديث: (ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ) (أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وقال ابن باز: الحديث له طرق فيها ضعف، لكن مجموعها يشد بعضه بعضًا، ويكون من باب الحسن لغيره)، ولما كان وجود المجاعة شبهة عامة في ذلك العام تم تطبيقها على كل سارق، وهذا هو التطبيق الصحيح للحكم الشرعي الذي يُلزِم الحاكم ألا يقيم الحدَّ حال ورود شبهة.
- كذلك: عدم إعطائه للمؤلفة قلوبهم من الزكاة؛ لأن من شروط استحقاقهم لسهم في الزكاة أن يرجَى من ورائهم نفع للمسلمين أو يخشى منهم ضرر، وهو ما زال بقوة المسلمين؛ مما يعني أن تطبيق الحكم الشرعي على الواقع في زمانه أنهم لا يستحقون أن يأخذوا من الزكاة.
وهذا النوع من الفتاوى هو الذي جعل بعض العلماء يقرر أن الأحكام التي مبناها على عوائد الناس قابلة للتغير متى تغيرت تلك العوائد، وهم هنا لا يعنون الأحكام التي هي خطاب الله، بل يتحدثون عن تطبيق لها على واقع ما وإن كان قد استقر وانتشر حتى صار بمنزلة الحكم، وهذا ما يوجب الاهتمام بمعرفة الدليل، وبمعرفة الأسس التي بُنيت عليها المواقف والأقوال.
ومِن الأمثلة التي يمكن أن تندرج تحت هذا القسْم:
1- أنواع ما يجوز إخراجه في زكاة الفطر: فقد شمل في زماننا "الأرز" بناءً على ما فهمه الجمهور من أن المقصود في زكاة الفطر أي طعام مدخر.
2- معظم أحكام أهل الذمة: فهي مبنية على "الشروط العُمرية"، وهو عقد وإن تكرر في فتح عدة بلاد؛ إلا أن هذا لم يمنع من تطبيق غيره أحيانًا.
3- معظم أحكام ديار الإسلام وديار الكفر.
4- يدخل فيه عند ابن تيمية -رحمه الله- ومَن وافقه اختلاف الحكم على طلاق الثلاث في المجلس الواحد، وكذا حكم طواف الحائض إذا خشيتْ على نفسها الفتنة متى تخلفتْ عن الرَّكْب.
ومما سبق يتبين أهمية البصيرة في دين الله، وأهمية معرفة الأحكام بأدلتها، وهو ما يتيح معرفة تفصيل حكم الله في كافة المسائل؛ لا سيما تلك التي تتشابه ظاهريًّا، ولكن ثمة فروق مؤثرة بينها.
4- تنبيه حول مصطلح الثوابت والمتغيرات:
قررنا فيما مضى أن الأحكام ثابتة بينما الفتاوى تتغير تبعًا لتغير الأحوال، فهل يمكن أن نطلق مصطلح: "الثوابت والمتغيرات"، ونعني به: "الأحكام والفتاوى".
في الواقع، ورغم تسليمنا بقاعدة: "لا مشاح في الاصطلاح"؛ إلا أننا لا نفضِّل استعمال هذا الاصطلاح، ونفضل عليه ما اصطلح عليه السلف مِن التنبيه على تغير الفتوى بتغير الواقع.
وهذا لسببين:
الأول: أن في اصطلاح الثوابت والمتغيرات إيحاء بالتغير المطلق، بخلاف وصف الفتوى بالتغير؛ لأنه يتضمن الإحالة على الحكم الثابت "لأن الفتوى بحكم تعريفها هي تطبيق لحكم على واقع".
الثاني: أن مصطلح "الثوابت والمتغيرات" قد شاع في استعمال بعض المتأخرين، ويعنون بالثوابت: "مسائل الإجماع"، ويعنون بالمتغيرات: "مسائل الخلاف" ويقيده بعضهم بالسائغ، وهو مصطلح فيه نوع من التعسف اللغوي، وفيه إشعار بالتهاون فيما عدا مسائل الإجماع وعدها من المتغيرات "بينما عامتها من الثوابت" عند أصحابها، وإن كانوا يتحملون الأقوال المخالفة طالما لم تصادم نصًّا من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي.
5- الفرق بين تغير الحكم وتغير الاجتهاد:
يجب أن ننتبه أنَّ ما قررناه آنفًا مِن ثبات الأحكام الشرعية إنما نعني به ثباتها في حقيقة الأمر؛ لأن شرع الله قد تم، والرسالة قد ختمتْ بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولا مجال لنسخ ولا تبديل، ولكن قد يحدث لبعض الناس أن يتغير اجتهاده في مسألة ما فيكون ما أخبر عنه أنه حكم الله في أول الأمر هو بحسب ما أداه إليه اجتهاده، ثم يكون قوله الثاني لكونه رأى بمزيد علم أو اطلاع أو إعادة نظر في الأدلة أن حكم الله في المسألة هو كذا... وهذا ليس من باب تغير الفتوى بتغير أحوالها.
- ومن أمثلة هذا: المراجعات التي قام بها بعض المتكلمين: كالأشعري، والغزالي، ومن أمثلتها المعاصرة: "المراجعات" التي قامتْ بها الجماعة الإسلامية في مصر.
- ومن الجدير بالذكر: أن كثيرًا ما يُذكر المذهب الجديد للشافعي كمثال لتغير الفتوى بتغير الواقع، وإن كان عامتها راجع لتغير الاجتهاد في الحكم نتيجة للاطلاع على مزيد من الأدلة أو إعادة بحث المسألة؛ وبناء عليه وبدون الإخلال بما قررنا من ثبات الأحكام الشرعية في حد ذاتها، فإن تغير اجتهاد أي شخص أو جماعة في "موقف عملي ما" يمكن أن يعود إلى أحد هذه الاحتمالات:
الأول: تغير الفتوى لتغير الواقع بأن يكون اجتهاده في المسألة كحكم كما هو، بينما يكون الواقع قد تغير بالفعل؛ مما اقتضى إعادة بحث المسألة على ضوء مستجدات الواقع.
الثاني: تغير الفتوى لتغير الاجتهاد في تقدير الواقع، بأن يكون اجتهاده في المسألة كحكم كما هو، ولكنه أعاد تقييم الواقع.
الثالث: تغير الفتوى نتيجة تغير الاجتهاد في المسألة كحكم.
وبلا شك فإن النوع الأول طبيعي، وأنه هو الأصل أن يكون لكل واقع فتوى تتناسب معه، ولكنه قد يبدو مستغربًا أحيانًا حينما يستقر واقع ما لمدة طويلة ثم يتغير الواقع، فتتغير الفتوى، وأما النوع الثاني والثالث: فمن الأمانة لمن تبين له خطأ اجتهاده سواء كان في تقييم الواقع أو كان في استنباط الحكم أن يقوم بهذه المراجعات، ولكن من الطبيعي أن يأخذ هذا حظه من الدراسة وتوضيح الفرق بيْن القول القديم والقول الجديد، وما يتعلق منها بتغيير الاجتهاد في الحكم "لا سيما في المسائل التي كانت هناك قناعة أنها من الأمور التي تمثِّل مَعْلمًا من معالم السنة".
- وبهذا الصدد نود أن نؤكِّد أن: المواقف العملية التي تم اتخاذها بعد "25 يناير" عامتها راجع إلى تغير الفتوى نتيجة تغير الواقع، وقليل منها راجع إلى إعادة تقييم الواقع أو مزيد علم به، ولا يكاد يوجد ما هو راجع إلى تغير الاجتهاد في هذه الأمور كأحكام.
وقد تناولنا معظمها في مقالات أخرى، ولعلنا نفصِّل في بعضها في مقالة قادمة -إن شاء الله تعالى-.
www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كثرتْ التساؤلات داخل قواعد "الدعوة السلفية" حول بعض المواقف التي اتخذتها الدعوة منذ "25 يناير" وحتى الآن، والتي تبدو مخالفة لمواقف تم اتخاذها قبل "25 يناير"؛ فيتساءل البعض: هل مسَّتْ هذه الاجتهادات بعض الثوابت أم كانت كلها متعلقة بالمتغيرات؟
وللإجابة على هذا التساؤل نحتاج إلى تقرير بعض الأمور نعرضها باختصار نرجو ألا يكون مخلاً بهذه الأمور:
1- الفرق بيْن الحكم والفتوى:
- فالحكم الشرعي: "عبارة عن خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين".
- والفتوى: "ذكر الحكم المسئول عنه للسائل".
فالحكم الشرعي هو: الحكم المتعلق بأفعال العباد على وجه العموم من غير التفات إلى واقع معين يرتبط به الحكم: كالقول بوجوب الصلاة، وحرمة شرب الخمر، وهكذا...
والفتوى هي: تطبيق الحكم الشرعي على الواقع، ولا تكون الفتوى صحيحة إلا إذا كان الحكم الشرعي منطبقًا على الواقع انطباقًا صحيحًا.
- يقول ابن القيم -رحمه الله- في بيان علاقة الفتوى بالحكم الشرعي: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر".
- وعندما استُفتي ابن تيمية -رحمه الله- في قتال التتار بيَّن ذلك الارتباط وأفتى بقوله: "نعم يجب قتال هؤلاء، بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين، وهذا مبني على أصلين: أحدهما المعرفة بحالهم. والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم".
- ومن أمثلة ذلك: أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، وأن التيمم يشرع بدلاً عنها في حالة فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله، وأن فاقد الطهورين تسقط عنه الطهارة.
كل هذه أحكام مجردة، وعند تطبيقها على واقع معين يُقال للبعض: يجب عليك الوضوء، ويقال للآخر: يجب عليك التيمم، ويقال للثالث: لا يجب عليك لا هذا ولا ذاك.
ومن هنا، فقد وقف العلماء عند نصوص الشرع التي خوطب بها أفراد معينون؛ لكي يحققوا مناط خطاب الله الذي خوطب به هؤلاء، وقرروا قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، ومن أمثلتها: "قصة المجادلة".
وأما ما كان الخطاب فيه موجهًا إلى شخص مكلف بعينه؛ فقرروا عمومه أيضًا من باب تساوي المكلفين في خطاب الشرع؛ ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
وأما ما تبين فيه أن الخطاب وجِّه إلى مكلف بعينه لعلة وُجدت فيه؛ فقد اجتهد العلماء في تجريد ذلك الحكم بعلته لتعميمه على مَن يشبهونه، ويظهر ذلك جليًّا عند اختلاف الخطاب الموجَّه مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- في واقعتين متعلقتين بذات الموضوع، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) (متفق عليه)، وقال في موطن آخر: (أفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ) (رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وصححه الألباني)، فيحمل ذلك على اختلاف حال السائل.
وورد أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- اختلاف فتوى القبلة للصائم بين الشاب والشيخ الكبير، وقد أشارت عائشة -رضي الله عنها- إلى الضابط في الباب في قولها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ) (متفق عليه).
2- ثبات الأحكام وتغير الفتاوى:
إذن فالمصدر الرئيسي لاختلاف الفتاوى في مسألة واحدة يأتي من البحث في الشروط والموانع، وأحوال الاختيار وأحوال الاضطرار.
ومنه نأخذ: أن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير؛ لأنها خطاب الله، ولا يملك أحد أن يغيره؛ وإلا لأصبح هذا نسخًا أو تبديلاً!
وأما الفتاوى: فهي متغيرة، ولكن في حدود إسقاط الحكم على الواقع، ومِن ثَمَّ فلا يُتصور أن تتغير الفتوى في واقعتين متطابقتين أو بينهما فرق غير مؤثر؛ فلن يُلتفت في المثال السابق -الطهارة- إلا إلى وجود الماء والقدرة على استعماله، وما عدا ذلك من الأحوال؛ فلا يتصور أن تتأثر به الفتوى في هذا المثال.
3- الفتاوى التي تعم بها البلوى واشتباهها بالأحكام:
توجد بعض الفتاوى التي تعم بها البلوى، وتنطبق على عدد كبير من المكلفين مما يجعلها تُتداول كما لو كانت أحكامًا؛ بينما هي في حقيقتها تطبيق للحكم على صورة عامة.
- ومن أوضح أمثلتها: عدم تطبيق عمر -رضي الله عنه- لحد السرقة في عام "الرمادة"، فالأمر هو تطبيق لحديث: (ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ) (أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وقال ابن باز: الحديث له طرق فيها ضعف، لكن مجموعها يشد بعضه بعضًا، ويكون من باب الحسن لغيره)، ولما كان وجود المجاعة شبهة عامة في ذلك العام تم تطبيقها على كل سارق، وهذا هو التطبيق الصحيح للحكم الشرعي الذي يُلزِم الحاكم ألا يقيم الحدَّ حال ورود شبهة.
- كذلك: عدم إعطائه للمؤلفة قلوبهم من الزكاة؛ لأن من شروط استحقاقهم لسهم في الزكاة أن يرجَى من ورائهم نفع للمسلمين أو يخشى منهم ضرر، وهو ما زال بقوة المسلمين؛ مما يعني أن تطبيق الحكم الشرعي على الواقع في زمانه أنهم لا يستحقون أن يأخذوا من الزكاة.
وهذا النوع من الفتاوى هو الذي جعل بعض العلماء يقرر أن الأحكام التي مبناها على عوائد الناس قابلة للتغير متى تغيرت تلك العوائد، وهم هنا لا يعنون الأحكام التي هي خطاب الله، بل يتحدثون عن تطبيق لها على واقع ما وإن كان قد استقر وانتشر حتى صار بمنزلة الحكم، وهذا ما يوجب الاهتمام بمعرفة الدليل، وبمعرفة الأسس التي بُنيت عليها المواقف والأقوال.
ومِن الأمثلة التي يمكن أن تندرج تحت هذا القسْم:
1- أنواع ما يجوز إخراجه في زكاة الفطر: فقد شمل في زماننا "الأرز" بناءً على ما فهمه الجمهور من أن المقصود في زكاة الفطر أي طعام مدخر.
2- معظم أحكام أهل الذمة: فهي مبنية على "الشروط العُمرية"، وهو عقد وإن تكرر في فتح عدة بلاد؛ إلا أن هذا لم يمنع من تطبيق غيره أحيانًا.
3- معظم أحكام ديار الإسلام وديار الكفر.
4- يدخل فيه عند ابن تيمية -رحمه الله- ومَن وافقه اختلاف الحكم على طلاق الثلاث في المجلس الواحد، وكذا حكم طواف الحائض إذا خشيتْ على نفسها الفتنة متى تخلفتْ عن الرَّكْب.
ومما سبق يتبين أهمية البصيرة في دين الله، وأهمية معرفة الأحكام بأدلتها، وهو ما يتيح معرفة تفصيل حكم الله في كافة المسائل؛ لا سيما تلك التي تتشابه ظاهريًّا، ولكن ثمة فروق مؤثرة بينها.
4- تنبيه حول مصطلح الثوابت والمتغيرات:
قررنا فيما مضى أن الأحكام ثابتة بينما الفتاوى تتغير تبعًا لتغير الأحوال، فهل يمكن أن نطلق مصطلح: "الثوابت والمتغيرات"، ونعني به: "الأحكام والفتاوى".
في الواقع، ورغم تسليمنا بقاعدة: "لا مشاح في الاصطلاح"؛ إلا أننا لا نفضِّل استعمال هذا الاصطلاح، ونفضل عليه ما اصطلح عليه السلف مِن التنبيه على تغير الفتوى بتغير الواقع.
وهذا لسببين:
الأول: أن في اصطلاح الثوابت والمتغيرات إيحاء بالتغير المطلق، بخلاف وصف الفتوى بالتغير؛ لأنه يتضمن الإحالة على الحكم الثابت "لأن الفتوى بحكم تعريفها هي تطبيق لحكم على واقع".
الثاني: أن مصطلح "الثوابت والمتغيرات" قد شاع في استعمال بعض المتأخرين، ويعنون بالثوابت: "مسائل الإجماع"، ويعنون بالمتغيرات: "مسائل الخلاف" ويقيده بعضهم بالسائغ، وهو مصطلح فيه نوع من التعسف اللغوي، وفيه إشعار بالتهاون فيما عدا مسائل الإجماع وعدها من المتغيرات "بينما عامتها من الثوابت" عند أصحابها، وإن كانوا يتحملون الأقوال المخالفة طالما لم تصادم نصًّا من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي.
5- الفرق بين تغير الحكم وتغير الاجتهاد:
يجب أن ننتبه أنَّ ما قررناه آنفًا مِن ثبات الأحكام الشرعية إنما نعني به ثباتها في حقيقة الأمر؛ لأن شرع الله قد تم، والرسالة قد ختمتْ بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولا مجال لنسخ ولا تبديل، ولكن قد يحدث لبعض الناس أن يتغير اجتهاده في مسألة ما فيكون ما أخبر عنه أنه حكم الله في أول الأمر هو بحسب ما أداه إليه اجتهاده، ثم يكون قوله الثاني لكونه رأى بمزيد علم أو اطلاع أو إعادة نظر في الأدلة أن حكم الله في المسألة هو كذا... وهذا ليس من باب تغير الفتوى بتغير أحوالها.
- ومن أمثلة هذا: المراجعات التي قام بها بعض المتكلمين: كالأشعري، والغزالي، ومن أمثلتها المعاصرة: "المراجعات" التي قامتْ بها الجماعة الإسلامية في مصر.
- ومن الجدير بالذكر: أن كثيرًا ما يُذكر المذهب الجديد للشافعي كمثال لتغير الفتوى بتغير الواقع، وإن كان عامتها راجع لتغير الاجتهاد في الحكم نتيجة للاطلاع على مزيد من الأدلة أو إعادة بحث المسألة؛ وبناء عليه وبدون الإخلال بما قررنا من ثبات الأحكام الشرعية في حد ذاتها، فإن تغير اجتهاد أي شخص أو جماعة في "موقف عملي ما" يمكن أن يعود إلى أحد هذه الاحتمالات:
الأول: تغير الفتوى لتغير الواقع بأن يكون اجتهاده في المسألة كحكم كما هو، بينما يكون الواقع قد تغير بالفعل؛ مما اقتضى إعادة بحث المسألة على ضوء مستجدات الواقع.
الثاني: تغير الفتوى لتغير الاجتهاد في تقدير الواقع، بأن يكون اجتهاده في المسألة كحكم كما هو، ولكنه أعاد تقييم الواقع.
الثالث: تغير الفتوى نتيجة تغير الاجتهاد في المسألة كحكم.
وبلا شك فإن النوع الأول طبيعي، وأنه هو الأصل أن يكون لكل واقع فتوى تتناسب معه، ولكنه قد يبدو مستغربًا أحيانًا حينما يستقر واقع ما لمدة طويلة ثم يتغير الواقع، فتتغير الفتوى، وأما النوع الثاني والثالث: فمن الأمانة لمن تبين له خطأ اجتهاده سواء كان في تقييم الواقع أو كان في استنباط الحكم أن يقوم بهذه المراجعات، ولكن من الطبيعي أن يأخذ هذا حظه من الدراسة وتوضيح الفرق بيْن القول القديم والقول الجديد، وما يتعلق منها بتغيير الاجتهاد في الحكم "لا سيما في المسائل التي كانت هناك قناعة أنها من الأمور التي تمثِّل مَعْلمًا من معالم السنة".
- وبهذا الصدد نود أن نؤكِّد أن: المواقف العملية التي تم اتخاذها بعد "25 يناير" عامتها راجع إلى تغير الفتوى نتيجة تغير الواقع، وقليل منها راجع إلى إعادة تقييم الواقع أو مزيد علم به، ولا يكاد يوجد ما هو راجع إلى تغير الاجتهاد في هذه الأمور كأحكام.
وقد تناولنا معظمها في مقالات أخرى، ولعلنا نفصِّل في بعضها في مقالة قادمة -إن شاء الله تعالى-.
www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى